بقلم - د. محمد علي السقاف
«إذا كنت معي 99 في المائة، فإنك لست معي»، (غولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل الراحلة).
هذه الكلمات التي أوردها الدكتور بطرس بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة الراحل، في كتابه «5 سنوات في بيت من زجاج» تفسّر قناعة إسرائيلية ثابتة ودائمة بمواقفها وعلاقاتها مع الأطراف الخارجية، وهي المواقف نفسها لحليفتها الرئيسية الولايات المتحدة الأميركية التي لا تؤمن كثيراً بالدبلوماسية، فالقوة تكفي. الضعفاء وحدهم هم من يعتمدون على الدبلوماسية.
في جلسة مجلس الأمن الدولي التي انعقدت يوم الثلاثاء الماضي بتاريخ 24 أكتوبر (تشرين الأول) حول الوضع في الشرق الأوسط، استمعنا إلى إحاطة من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي رأى أن الهجوم الذي شنته حركة «حماس» على مستوطنات وبلدات غلاف غزة في السابع من أكتوبر «لم يحدث من فراغ»، مشيراً إلى أن الشعب الفلسطيني «خضع على مدى 56 عاماً للاحتلال الخانق». مضيفاً أن أراضيهم رأوها تلتهمها المستوطنات وتعاني العنف، وخُنق اقتصادهم، ثم نزحوا عن أراضيهم، وهُدمت منازلهم، وتلاشت آمالهم في التوصل إلى حل سياسي لمحنتهم. وفي إشارة إلى حركة «حماس» ندد الأمين العام باستخدام المدنيين دروعاً بشرية، وهو ما يعد جريمة حرب. وأكد إدانته القوية للهجمات التي شنتها «حماس» على إسرائيل، قائلاً إنها غير مبرَّرَة، وذكر أن «المظالم المشروعة للشعب الفلسطيني لا يمكن أن تبرر الهجمات المروعة من جانب (حماس)، كما أن هذه الهجمات المروعة لا يمكن أن تبرر العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني».
ويلاحَظ هنا في مداخلة غوتيريش أنه كما يبدو حاول أن يختار عباراته وتوصيفاته لما يحدث في غزة بعناية شديدة. فهو رأى أن الحركة الفلسطينية ارتكبت «جرائم حرب» باستخدامها المدنيين دروعاً بشرية وفق ادعاءات إسرائيل، بينما أكاد أقول إن جميع التقارير الأممية التي صدرت من المنظمة الدولية اتهمت فيها بشكل صريح ارتكاب إسرائيل جرائم حرب، وانتهاكات واضحة للقانون الدولي الإنساني. ومع ذلك أغضب التصريح الإسرائيليين فقررت الحكومة إلغاء الزيارة التي كان يخطط الأمين العام للأمم المتحدة القيام بها لإسرائيل، وتبنَّت إجراءات أخرى ضدها. وكان المندوب الإسرائيلي الدائم في الأمم المتحدة، جلعاد أردان، قد دعا غوتيريش إلى الاستقالة من منصبه، فيما عدّه وزير الخارجية إيلي كوهين، منسلخاً عن الواقع، وأعطى -كما ذكرت هذه الصحيفة- تعليماته بشن هجمات ضده في دول العالم المختلفة وفي وسائل الإعلام حتى يتراجع، ولم تجد إسرائيل دولة واحدة تؤيدها في الهجمة عليه. نشير فقط إلى مثال واحد من عدة أمثلة للجرائم التي ارتكبت ضد ممثلي المنظمة الدولية، إذ قامت عصابة شتيرن الصهيونية المتطرفة في 17 سبتمبر (أيلول) 1948 باغتيال الكونت فولك بيرنادوت، الدبلوماسي السويدي مبعوث الأمم المتحدة للتفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
والسؤال هنا يتعلق بنصوص ميثاق الأمم المتحدة، فيما أدلى به من تصريحات مندوب إسرائيل في تهجمه على الأمين العام غوتيريش. جاء في الفصل الخامس عشر من الميثاق المتعلق بالأمانة العامة في الفقرة 2 من المادة 100، ما يلي: «يتعهد كل عضو في الأمم المتحدة باحترام الصفة الدولية البحتة لمسؤوليات الأمين العام والموظفين وبألا يسعى إلى التأثير فيهم عند اضطلاعهم بمسؤولياتهم». وأكد الأمين العام السابق داج همرشولد، منذ أكثر من أربعين عاماً بقراءته المادة سالفة الذكر، أن الهدف من وجودها في الميثاق تأكيد أن الأمم لمتحدة ليست مجرد منظمة حكومية وإنما هي منظمة ذات شخصية دولية مستقلة عن أعضائها.
وهل تصريحات الإسرائيليين تنحصر في توجيه النقد إلى الأمين العام للأمم المتحدة أم هي موجهة في الأساس إلى المنظمة الدولية ذاتها؟ وما أسباب ذلك؟
تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل نفسها حصلت على شهادة ميلادها من الأمم المتحدة، وفق قرار الجمعية العامة رقم 181 الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) 1947، بتقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية.
أغلب، إنْ لم تكن جميع، التقارير الأممية تُدين انتهاكات إسرائيل القانون الدولي الإنساني، وارتكابها جرائم حرب؛ فقد أصدرت الجمعية العامة في عام 1975 قراراً يعلن أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية، وألغت هذا القرار في عام 1991، وقامت مفوضية حقوق الإنسان برفض تصنيف مجموعات فلسطينية منظمات إرهابية، معتبرة ذلك غير مبرَّر.
والمدهش مع حرب غزة أن بعض الدول، مثل فرنسا، على لسان رئيسها ماكرون، لحقت بأغلب بقية الدول الغربية في تصنيف «حركة حماس منظمة إرهابية»، متناسياً أن منظمة التحرير الجزائرية كانت تصنَّف منظمة إرهابية، وفي نهاية الأمر تفاوضت معها لتحصل الجزائر على الاستقلال. والأدهى من كل ذلك موقف ألمانيا من حرب غزة التي لولا النازية التي قبل بها الشعب الألماني وأوصلها ديمقراطياً للسلطة لما قامت دولة إسرائيل.
كما تبين في قرار الجمعية العامة الأخير في نهاية أكتوبر، جرى التصويت بأغلبية ساحقة (120 عضواً) لصالح مشروع قرار المجموعة العربية «هدنة إنسانية فورية» في قطاع غزة. وأظهرت نتيجة التصويت انقساماً في صفوف الدول الغربية، إذ أيّدت فرنسا القرار، في حين امتنعت ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا عن التصويت، وصوتت النمسا والولايات المتحدة ضد القرار، مما يتطلب من الدول العربية استخلاص الدرس عند عرض الأزمة الأوكرانية مستقبلاً للتصويت في الأمم المتحدة.
آمال كبيرة معقودة على الرأي العام في الدول الغربية للتأثير في مواقف حكوماتهم من الأزمة، والإقلاع عن ازدواجية المعايير.