بقلم - د. محمد علي السقاف
أثارت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة للصين، في مطلع أبريل (نيسان) الحالي، ردود فعل واسعة على جانبي الأطلسي، بخصوص تحذيراته التي أدلى بها بشأن عواقب التبعية للولايات المتحدة في صراعها مع الصين، ودعوته إلى اتخاذ موقف أوروبي على مسافة واحدة من واشنطن وبكين في قضية جزيرة تايوان.
في نهاية العام الماضي، وتحديداً في 4 نوفمبر (تشرين الثاني)، أثارت زيارة شولتس، المستشار الألماني، إلى بكين ولقاؤه الزعيم الصيني شي جينبينغ ضجة وانتقادات واسعة في الداخل الألماني، وعلى مستوى دول الاتحاد الأوروبي، بخصوص توقيت زيارته للصين، لكنها لم تتسم بنفس الحدة كزيارة ماكرون لبكين... ما أسباب ذلك؟ وما الاختلاف بينهما؟ وما الذي يدعو عدداً من القيادات والمسؤولين الأوروبيين للسعي إلى زيارة الصين في هذه المرحلة، في حين كان توجههم بصفة رئيسية باتجاه موسكو، ومحاولة الالتقاء بالرئيس فلاديمير بوتين في سبيل إيقاف الحرب في أوكرانيا، وفي سبيل تأمين احتياجاتهم من الطاقة الروسية؟ وما تجدر ملاحظته هنا، عند توصل عدد من الدول الأوروبية خصوصاً ألمانيا لضمان أمنها من الوقود من مصادر أخرى، تغيُر خطابهم نحو روسيا وبوتين، ما يدعو ذلك الدول العربية إلى التنبه أن بعض المواقف الغربية في الوقت الحاضر مرتبطة بالطاقة، وعند تجاوزها هذه المرحلة ستتعامل معها كما تعاملت مع روسيا. ونسأل: لماذا جاءت ردود الفعل إزاء تصريحات ماكرون في الصين مختلفة عن مثيلتها تجاه زيارة شولتس للصين؟
الانتقادات لزيارة شولتس لبكين جاءت بسبب توقيتها في قمة اجتياح روسيا لأوكرانيا، ولم يفكر المستشار الألماني إلا بمصلحة بلاده بالتوصل إلى توقيع صفقات تجارية مع الصين، بدلاً من محاولة الضغط على الرئيس الصيني لإقناعه بحل الأزمة الأوكرانية.
اختلاف زيارة ماكرون إلى الصين عن نظيره الألماني شولتس يعود إلى اختلاف شخصية كل منهما عن الآخر، وإثارة ماكرون موضوع استقلالية أوروبا عن الولايات المتحدة. وقد سبق اتصال هاتفي بين ماكرون والرئيس الأميركي جو بايدن الذي تشاور معه بشأن الحرب الروسية على أوكرانيا؛ لأنها على رأس جدول مباحثاته مع نظيره الصيني، زيارته إلى بكين التي تمتد ثلاثة أيام مصطحباً معه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين.
وبجانب ذلك، أجرى ماكرون سلسلة أخرى من المشاورات مع الرئيس الأوكراني وعدد من المسؤولين الأوروبيين، حيث لا يريد الظهور كمتحدث باسم فرنسا فقط، بل أيضاً باسم الاتحاد الأوروبي. وهذا يفسر سبب اصطحابه في رحلته رئيسة المفوضية الأوروبية.
ماكرون تعرض للسخط والانزعاج الشديدين من قبل بعض الأوساط الأوروبية والأميركية؛ لسبب رئيسي يتعلق فيما ذكره بخصوص تايوان وتحذيراته من عواقب التبعية للولايات المتحدة الأميركية في صراعها مع الصين؛ لأنه يريد لأوروبا أن تكون مستقلة عن الولايات المتحدة والصين بتحقيق حلمها بـ«الاستقلال الاستراتيجي»، وذلك يقتضي منها تعزيز استقلالها الاقتصادي والعسكري، وتحديد مصالحها التي لا تتطابق دائماً مع المصالح الأميركية، التي تتضارب معها في بعض الأحيان، وقد عبّر ماكرون عن نهجه الاستقلالي في مناسبات عدة منها.
وفي خطابه الشهير في جامعة السوربون في 26 سبتمبر (أيلول) 2017، طرح ماكرون رؤيته لعشر سنوات مقبلة حول حلمه لأوروبا موحدة وقوية بالقول: «إننا في عالم يشهد تراجع دور الولايات المتحدة في المسرح الدولي وصعود الصين، وقوى اقتصادية واعدة، ليس أمام أوروبا خيار آخر إذا أرادت إثبات وجودها، عليها أن تكون موحدة أو ستصبح مهمشة!».
ولهذا عند فسخ أستراليا عقداً لشراء غواصات فرنسية لصالح الولايات المتحدة قال الرئيس ماكرون إنه «على أوروبا التخلي عن السذاجة» و«استخلاص العبر» من الخيارات الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة التي تتركز على خصومتها مع الصين. وتابع: «الولايات المتحدة صديق تاريخي كبير وحليف، لكن لا بد لنا من الإقرار بأنه منذ أكثر من عشر سنوات، تركز جهودها بالمقام الأول على نفسها، ولها مصالح استراتيجية تعيد توجيهها إلى الصين والمحيط الهادئ».
وفي زيارة دولة قام بها إلى هولندا بعد عودته من الصين، قام الرئيس ماكرون في مؤتمر صحافي بتوضيح ما جاء في تصريحاته التي أثارت جدلاً قائلا: «إن باريس ترى المحافظة (ستاتيكو) على وضع تايوان كما هو، وهي تعترف بصين واحدة، وتسعى إلى حل سلمي، وهو الأمر الذي يتوافق مع مواقف حلفائنا، ولا يعني ذلك تبعية للولايات المتحدة». مضيفاً أن فرنسا لا يحق لأحد أن يعطيها دروساً، لا بخصوص أوكرانيا، ولا في سياستها في منطقة الساحل الأفريقي.
مفهوم «الاستقلال الاستراتيجي» الذي يعشق ماكرون ترديده واستخدامه أحياناً بعبارة «السيادة الأوروبية»، أسهم في تبنّيه من قبل ماكرون موقف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الذي هدد الدول الأوروبية بإلغاء المادة الخامسة لحلف «الناتو» ووضعها في سلة المهملات، بما يعني أن أوروبا ستصبح مكشوفة أمنياً.
وبنجاح بايدن في الانتخابات الرئاسية في 2020 أعاد الاعتبار لحلف «الناتو» الذي كان وفق تعبير ماكرون يعيش موتاً سريرياً. أدى الاجتياح الروسي لأوكرانيا إلى إعادة تفعيل الحلف، ولولاه لربما لم تستطع أوكرانيا الصمود أمام القوات الروسية، وبالتالي فإنَّ الولايات المتحدة هي من تستطيع الدفاع عن أمن أوروبا. لم يثن ذلك عزيمة ماكرون ليؤكد مجدداً قوله: «إن الاستقلال الاستراتيجي يجب أن يكون معركة أوروبا، لأن عليها تأمين الدفاع عن نفسها، خصوصاً في افتراضية اشتعال جبهتين في آنٍ واحد، إذا كانت الولايات المتحدة ترى نفسها ملزمة بالدفاع عن تايوان، فإنها لن تستطيع أيضاً حماية أوروبا؛ لأن مصالح أميركا أولاً والصين في المرتبة الثانية، والبقية يمثلون أقل أهمية في الاستراتيجية الأميركية. هذا الأمر يدعو إلى التذكير بأهمية موقف الجنرال ديغول الذي أصر على بناء ترسانته النووية برفض عرض كينيدي بتوفير الغطاء النووي لفرنسا، ولولا ذلك الموقف لكانت فرنسا الدولة الوحيدة غير النووية من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، ولما تحدث ماكرون بهذه القوة حول ضرورة تحقيق استقلالية أوروبا عن أميركا.
والدرس الفرنسي التقليدي تجسد هو أيضاً في موقف السعودية في علاقتها مع الولايات المتحدة. المصالح الوطنية والقومية أولاً. نعم للشراكة ولا للتبعية!