بقلم - د. محمد علي السقاف
عدّ البعض أن مصطلح «القمة» يعود الفضل لابتكاره واستخدامه للمرة الأولى إلى الزعيم البريطاني ونستون تشرشل، الذي أراد من خلاله الدعوة إلى عقد لقاءات بين رؤساء دول وحكومات الشرق والغرب في حقبة الحرب الباردة. وأطلق فكرته هذه عام 1953 بالدعوة لتنظيم لقاء قمة مباشرة بين رئيس الاتحاد السوفياتي، والرئيس الأميركي، لبحث شؤون الأمن الأوروبي، والحد من مخاطر إمكانية استخدام الأسلحة النووية، ووضع حد للنزاع المستمر بين القوتين العظميين في آسيا في كل من «كوريا والهند الصينية».
في بداية الأمر، لم تلقَ اقتراحات تشرشل صدى لدى الإدارة الأميركية التي لم توافق عليها إلا بعد مرور عامين من إطلاقها، حيث عقدت أول قمة في جنيف بين الشرق والغرب، التي طرحت فيها عدة مبادرات، منها خطة الرئيس الأميركي أيزنهاور «السماء المفتوحة»، وخطة رئيس وزراء فرنسا السابق إدغار فور، المتمثلة في إنشاء آلية لإعادة تدوير الأموال التي يتم توفيرها من سياسة نزع السلاح لصالح الدول النامية.
وتختلف دبلوماسية القمم عن التعددية في العلاقات الدولية من ناحية أن دبلوماسية القمم تنحصر في علاقة «أوليغارشية» بمعنى أنها محصورة بين عدد محدود من الدول. وعلى سبيل المثال، مجموعة العشرين حين تجتمع في قمة يعني ذلك أن نحو 172 دولة لم تشملها هذه القمة. والأمر كذلك اعتبار البعض أن قمم حلف الأطلسي (الناتو) الذراع العسكرية للمجتمع الغربي تستبعد فعلياً التعاطي مع بقية الدول 172.
لقاءات القمم الدبلوماسية تجمع في نطاقها عدداً قليلاً من الدول، التي تجمعها مصالح مشتركة، وإن اختلفت القيم التي تؤمن بها أطرافها المشاركة في تلك القمم. والميزة في هذا أنها تتيح ما لا تتيحه التعددية من بروز قيادات إقليمية أو دولية، كنوع من تجمع نخبوي للدول، كما كان سائداً في حقبة نظام ويستفاليا 1648، وفيينا 1815.
بمعنى آخر، دبلوماسية القمم هي امتداد للدبلوماسية التقليدية؛ حيث هي في الأساس تجمع الدول، وليس بالضرورة في شكل حصري، كما كانت تجتمع في الماضي، لأن الدول بمقدورها التحكم في الأحداث، ومتابعة التداعيات الدولية لبعض تطورات الأحداث. والقمم تتيح بالضرورة التواصل المباشر بين قادة الدول والتنسيق فيما بينهم لاحتواء المشكلات التي يواجهونها. ويعتقد أن لقاءات القمة بين القوى الصاعدة والمؤثرة يسهّل التوصل إلى حلول للتحديات والأزمات التي تواجه أطرافها المشاركة، مع وجود قناعة أن الرؤية المشتركة التي تجمعهم في بعض القضايا تحول دون صدام أو تعارض المصالح بينهم، ولو مؤقتاً.
وفي هذه الجزئية الأخيرة، تجدر الإشارة إلى اللقاء الذي تم في جزيرة بالي، بإندونيسيا، في اجتماع مجموعة العشرين، بين الزعيم الصيني شي جينبينغ، والرئيس الأميركي جو بايدن، الذي استغرق 3 ساعات، حيث يظهر بوضوح التحدي الكبير الذي تمثله الصين للولايات المتحدة كقوة اقتصادية منافسة، وأيضاً قوة سياسية منافسة، بالإضافة إلى نمو قواتها العسكرية بشكل يثير قلق الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين. وهنا تتبين ميزة وفائدة دبلوماسية القمم التي تتجاوز أهميتها من لقاءات وزراء خارجية الدول المعنية.
واللافت في الأمر أن غياب الرئيس بوتين عن قمة العشرين، 15 - 16 نوفمبر (تشرين الثاني)، وتمثيله من خلال وزير خارجيته، قصرت لقاءاته على هذا المستوى بدلاً من الالتقاء بالقيادات المشاركة في الإجتماع. وفي منتدى قادة دول آسيا والمحيط الهادي (أبيك APEC) كان مثيراً إشارة البيان الختامي (19 نوفمبر) إلى إدانة القادة لحرب أوكرانيا، وتشديدهم على أنها تسببت في معاناة إنسانية هائلة، تؤدي إلى تفاقم نقاط الضعف الحالية في الاقتصاد العالمي، مكررين بذلك موقفاً صدر في ختام مجموعة العشرين قبل ذلك بأيام قليلة. الفارق بين البيانين أن في بيان مجموعة العشرين أدان «غالبية الأعضاء»، وليس بشكل مطلق، الحرب في أوكرانيا، ما يمثل تطوراً نوعياً للمواقف السابقة للأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ امتنع حينها عن التصويت كل من الصين والهند لإدانة الحرب في أوكرانيا.
وسنلاحظ كيف أن قمم الرياض الثلاث الأخيرة السعودية - الصينية، والقمة الخليجية - الصينية، والقمة العربية الصينية، تمثل انعطافاً جديداً في العلاقات الصينية مع جميع الأطراف العربية، لأهمية ما تضمنته بياناتها الختامية من مجالات التعاون المختلفة. وبذلك تموضع الدول العربية في العلاقات الدولية ليس في المقاعد الخلفية، بل هي بدأت تشق لنفسها مقاعد أمامية متقدمة في المسرح الدولي.