بقلم - محمد علي السقاف
أظهرت فرنسا خلال فترة الاستعداد لخوض الانتخابات أن التعصب القومي والشعبوية اللذين عمَّا عدداً من الدول الديمقراطية لا يزالان هما هما حتى الآن
في الانتخابات الرئاسية لعام 2017، فاز إيمانويل ماكرون بالرئاسة أمام مرشحة اليمين مارين لوبن. وستكون الجولة الثانية للانتخابات، بعد أسبوعين، هي تكرار لانتخابات 2017، إذ سيتواجه الرئيس المنتهية ولايته مع السيدة لوبن التي تقدمت بفارق ضئيل على مرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون الذي خرج من السباق.
في مساء الأحد 10 أبريل (نيسان) في الساعة الثامنة مساءً كالمعتاد، كشف الفرنسيون على الهواء مباشرة اسم المرشحين الفائزين في الانتخابات بالجولة الأولى؛ ماكرون ولوبن.
أهمية الانتخابات الرئاسية في ظل الجمهورية الخامسة التي أسسها الجنرال شارل ديغول، تكمن في الصلاحيات الواسعة التي نص عليها دستور الجمهورية الخامسة؛ فصلت بشكل خاص من قبل الجنرال ديغول لملاءمة طموحاته بأن يكون الرئيس يمتلك أهم السلطات من بين بقية مكونات الدولة، وبلورت هذا الأمر عبارة شهيرة بأن ديغول هو فرنسا وفرنسا هي ديغول.
فرئيس الجمهورية هو الذي يسمي رئيس الوزراء، وله صلاحيات مشتركة معه، والرئيس هو الذي يستطيع حل البرلمان، وإجراء استفتاء شعبي، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، وفي الأوضاع الخطيرة يملك وفق المادة 16 سلطات استثنائية؛ التي وصفها أستاذنا الجامعي لعلم الاجتماع والدستور وريس دي فرجيه، بـ«الرئيس الملكي».
من هنا اكتسبت الانتخابات الرئاسية اهتماماً بالغاً لدى المواطن الفرنسي مقارنة بالانتخابات البرلمانية، التي أظهرت في مرحلة لاحقة، تحديداً في فترة رئاسة فرنسوا ميتران، إمكانية الحد من برامج وطموحات الرئيس الفرنسي في حال أفرزت نتائج الانتخابات البرلمانية وصول أغلبية مناهضة للأغلبية المؤيدة للرئيس، مما دعاه إلى محاولة «التعايش» مع الأغلبية البرلمانية المختلفة عن أغلبيته الحزبية في البرلمان، وسبب ذلك تعقيدات جمة في الأداء الحكومي، وفي إنفاذ وتمرير بعض القرارات الرئاسية التي أشرنا إليها سابقاً في الصلاحيات المشتركة التي وضعها الدستور، موزعة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، والتي أدت إلى صراع بين ميتران وجاك شيراك.
وكانت استطلاعات الرأي الأخيرة قبل فترة «الصمت الانتخابي»، التي أجريت لصالح صحيفة «لوموند»، أظهرت وجود فارق أربع نقاط بين ماكرون ولوبن: 26.5 لصالح ماكرون، و22.5 % لصالح لوبن، بينما تقدمت نسبة الناخبين ممن ينوون التصويت من أجل ميلونشون من نسبة 16 إلى 17.5 ، مكتسباً في غضون أربعة أيام فقط 1.5 نقطة إضافية.
أما بقية المرشحين، فلم يحصل المرشح اليميني المتطرف المعادي للمهاجرين وللمسلمين إيريك زمور، في نيات التصويت إلا على نسبة 9 ، بينما حصلت فاليري بيكر يس، مرشحة حزب الجمهوريين، على نسبة 8.5 ، وحصل يانيك جادو مرشح حزب «البيئة والخضر» على نسبة 5 ، ولم يحظ بقية المرشحين في استطلاع الرأي على ما دون نسبة 5 من مرشحي الحزب الاشتراكي، والحزب الشيوعي.
وسيلاحظ هنا الانقسام الشديد الذي ظهر بين مرشحي اليسار، والذي في نهاية الأمر سمح لمرشح اليسار المتطرف ميلونشون، بالاستفادة من هذا الوضع بالتشديد في حملته الانتخابية على الحاجة إلى التصويت المجدي أو المفيد لتيار اليسار، مما جعله يتقدم في استطلاعات الرأي عن بقية مرشحي اليسار، وهو ما ظهرت صحته بالفعل عقب إعلان نتائج تصويت الجولة الأولى مساء الأحد.
كما يلاحظ أيضاً أن مرشحة اليمين المتطرف ماري لوبن، استفادت من جانبها من الخطاب المتطرف لإريك زمور، وهجومه على الإسلام والمهاجرين، لتظهر أمام الرأي العام الفرنسي كأنها تبدو أكثر اعتدالاً في مواقفها وتوجهاتها عنه، دفعها ذلك إلى حد قبولها التقاط صور مع نساء يرتدين النقاب، بينما هي في حقيقة الأمر لا تقل تطرفاً عن زمور، لكنها لم تركز في حملاتها الانتخابية على مهاجمة المهاجرين والمسلمين، وإنما ركزت بشكل أساسي في حملتها الانتخابية على الملفات الداخلية، مثل صعوبة الظروف المعيشية التي تواجه كثيراً من مواطني فرنسا، وكسبت في هذا المجال تعاطفاً وقبولاً لدى قطاع واسع من ذوي الدخل المحدود لدى الرأي العام الفرنسي مقارنة بالرئيس ماكرون، الذي لم يول جل اهتمامه لمعالجة الأوضاع المعيشية للفرنسيين، حسب منتقديه، كما أن بعضاً من مشاريعه المقترحة لم تلاقِ قبولاً شعبياً، وبالذات اقتراحه رفع سن التقاعد إلى 65 عاماً، ولم يهتم كبقية المرشحين بالمشاركة في تجمعات انتخابية، وقام مؤخراً بإلغاء لقاء تلفزيوني لشرح برنامجه الانتخابي، وبرر ذلك بانشغاله بتداعيات الأزمة الأوكرانية.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الدول الغربية الكبرى، على رأسها الولايات المتحدة الأميركية، والدول الرئيسية في الاتحاد الأوروبي، تتابع باهتمام بالغ مسار الانتخابات الفرنسية لسببين رئيسيين؛ أولهما يعود لمخاوفهم من احتمال تفوق مرشحة اليمين المتطرف ماري لوبن على ماكرون، بسبب تصريحاتها السابقة، التي أبدت فيها ميولاً وتعاطفاً مع شخصية الرئيس الروسي بوتين، إضافة إلى أن لا أحد من كبار المرشحين من لوبن أو مرشح اليسار الراديكالي يمتلك الخبرات الدولية، مثل التي لدى الرئيس المرشح ماكرون، خصوصاً في هذه المرحلة الدقيقة والحرجة التي يمر بها الغرب في تحدياته أمام المعسكر الآخر من روسيا إلى الصين.
وبإعلان نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لا شك في أنه محلياً ودولياً جاءت النتائج المعلنة تطمئن مرحلياً على الأقل الداخل الفرنسي والدوائر الدولية.
فقد حصد الرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون، 27.60 %، مسجلاً بذلك تقدماً على ما حصل عليه في انتخابات الجولة الأولى 24 لعام 2017، جاءت بعده مارين لوبن بنسبة 23.3 ، ومسجلة هي بدورها تقدماً بسيطاً عن عام 2017 الذي بلغت فيه نسبة 21.3 ، في حين حقق جان لوك ميلونشون نسبة 22.20 بفارق بسيط عن لوبن، ليصل بذلك إلى المرتبة الثالثة؛ الأمر الذي جعل بعض المراقبين يأسفون لأن أصوات اليسار كان بإمكانها تعديل النتيجة لو صوتوا لصالح ميلونشون.
وعلى ضوء ذلك، المنافسة في الجولة الثانية في 24 أبريل ستنحصر بين ماكرون ولوبن، وعليه في مثل هذه الظروف تتجمع الأطراف إلى دعوة الناخبين الذين صوتوا لواحد من الفائزين إلى التصويت لصالحه، حيث دعا مرشحو اليمين وحزب الخضر والحزبين الشيوعي والاشتراكي إلى التصويت للرئيس المنتهية ولايته ماكرون في الدورة الثانية، لقطع الطريق على مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن، ويمثل هؤلاء المرشحون نحو 15 بحسب بعض التقديرات، بالإضافة إلى أولئك طالب مرشح اليسار الراديكالي، الذي حصل على 22.20 بأن لا يعطي من صوتوا له صوتاً واحداً لليمين المتطرف، مكرراً ذلك ثلاث مرات: لا تعطوا صوتاً واحداً لماري لوبن، بمعنى آخر غير مباشر صوتوا لصالح ماكرون، فيما طالب ممثل اليمين المتطرف زمور بالتصويت للوبن.
في الخلاصة، يمكن القول إن الأحزاب التقليدية القديمة منيت بخسائر وفشل غير مسبوق، وأظهرت خلال فترة الاستعداد لخوض الانتخابات فرنسا أن التعصب القومي والشعبوية اللذين عما عدداً من الدول الديمقراطية لا يزالان هما هما حتى الآن. لهذا دعا مناصرو ماكرون إلى الحذر واليقظة والاستمرار في التعبئة لكسب انتخابات الجولة الثانية في 24 من الشهر الحالي.