بقلم - سميرة المسالمة
تستخدم روسيا اتفاق خفض التصعيد الموقع حول جنوب سورية في شهر تشرين ثاني (نوفمبر) من العام الماضي كمصيدة لإيران من جهة، وللولايات المتحدة الأميركية من جهة ثانية، وللنظام السوري من جهة ثالثة، وهو الذي لا يزال يعتمد حالة العناد والتحايل والتلاعب بين الرغبة الإيرانية، والإرادة الروسية، في تنفيذ متطلبات التسوية الروسية المقترحة، فتأزيم الأوضاع في منطقة خفض التصعيد في الجنوب (وهي الطرف الضامن المقابل للطرف الأميركي) من شأنه أن يمارس ضغطاً باتجاهين: الضامن (الولايات المتحدة والأردن) والمضمون (فصائل الجنوب المسلحة والنظام)، كما أنه قد يثير شهية التساؤلات لدى المعارضة عن فاعلية اعتمادهم على الجانب الأميركي في إجراءات التسوية العسكرية والسياسية في آن معاً.
وتعتقد موسكو أن التهديد بانفجار الوضع في الجنوب السوري من شأنه أن يلزم كل الأطراف المتضررة (المعارضة والأردن وإسرائيل) للتحرك باتجاه تسوية قابلة للتطوير، من شأنها أن تنهي حالة الركود السياسي التي تخشاها موسكو، نتيجة الموقف الأميركي المتحفظ على نتائج جولات آستانة التسعة، واعتبارها مساراً جانبياً لن يفضي إلى حلول شاملة، حيث إيران الطرف الثالث فيها إلى جانب روسيا وتركيا. ما يعني أن عدم التزام كامل المعارضة بمشروع موسكو في آستانة وسوتشي ترده روسيا إلى الموقف الأميركي، الذي يرفض انفرادها بالحل من دون النظر إلى مصالحها مع بقية الشركاء من الأوروبيين، وعلى ذلك فإن إثارة المخاوف لدى المعارضة، عن إمكانية خرق اتفاق خفض التصعيد من قبل النظام السوري، وإعادة التجربة الأليمة التي حدثت في الغوطة والقلمون، وقبلها حلب وحمص، يجبرهم على البحث في حلول توفر على منطقة حوران «مهد الثورة» ما ينتظرها من تدمير وقتل وتشريد لأهاليها من ناحية، ومن ناحية أخرى يحفز الجانب الأردني المتضرر من أي حرب تقوم بمحاذاة حدوده على تسريع عجلة التفاوض، والوصول إلى تسويات توفر له استقرار معابره مع سورية، وكذلك يثير شهية «إسرائيل» في ترتيب أوضاع حدودها التي تريدها خالية من الوجود الإيراني.
إذاً تلويح النظام بالمعركة المقبلة في درعا ليس من بنات أفكاره، على رغم أنها تمثل رغبته في استعادة السيطرة على الحدود مع كل من الأردن وكذلك دولة الاحتلال، لما يوفره ذلك من مردود اقتصادي عبر فتح المعبر الذي حرم منه النظام لسنوات طويلة إثر سيطرة فصائل الجيش الحر عليه عام 2013، ومن مردود سياسي يعيده إلى ممارسة دوره الوظيفي في الحفاظ على الهدنة البينية مع إسرائيل، إلا أن ما يترتب عن إعلان هذه المعركة «الإعلامية» من نتائج، يأتي ضمن سياق «اضطراره» تنفيذ رغبة روسيا في الالتزام بالمطالب الأميركية، والتي تصب في مصلحة موسكو، بينما تقوض آمال النظام في الإبقاء على حليفته إيران كعامل توازن له في مواجهة الغطرسة الروسية عليه، حيث كان يعول على المساندة الإيرانية لاستعادة كامل سورية، لخلق تسوية شكلية مع المعارضة تنهي فيها مفاعيل الثورة التي اندلعت عام 2011، وتؤسس لإعادة إنتاج النظام وفق مبادرة سوتشي ذات الضمانات الروسية والإيرانية والتركية.
وهذا ما جعل موسكو تقر أكثر من مرة أنها لا تستطيع أن تلوي يد النظام السوري وحدها، بسبب الوجود الإيراني في سورية، ودعمه منقطع النظير لحليفه الأسد، ما مكّنه من التواطؤ مع إيران ضد روسيا خلال عقدها اتفاقيات التسوية مع المعارضة، والتي يعتبرها النظام تقوض من صلاحياته في مناطق خفض التصعيد، ما وفر له بالتعاون مع إيران المرغمة على القبول بآستانة، القدرة على التحلل من هذه الاتفاقات ذات الضمانة الثلاثية المشتركة بين حليفيه، وتركيا حليفة الفصائل المحسوبة على المعارضة، وأن يخوض معاركه الوحشية التي أدت إلى استرجاع تلك المناطق بعمليات عسكرية، قتل فيها المئات وشرد عشرات الآلاف من السوريين داخل وخارج سورية، إلا أن النظام يدرك الآن أن اللعب مع الولايات المتحدة ضمن منطقة خفض التصعيد في الجنوب من دون التنسيق مع روسيا يعني انتهاء مرحلة الصمت عليه، أميركياً وإسرائيلياً، ما يعني أن المعركة «في حال وقوعها» يجب أن تكون وفقاً للشروط التي تريدها إسرائيل أي خالية من المشاركة الإيرانية، وغير ذات ضجيج يقلق المستوطنين فيها، وتضمن المصالح الأردنية في ذات الوقت ما يجعل خيار التسوية أسهل من خيار الحرب على الطرفين: النظام العاجز والمعارضة المقيدة.
ومن هنا فإن النظام الذي تكبله إيران بجملة اتفاقيات ومديونية كبيرة، يصعب عليه أن يطلب من إيران الخروج من سورية حسب الرغبة الإسرائيلية، التي نقلها الرئيس بوتين خلال لقائه ببشار الأسد في سوتشي في 17 أيار (مايو)، ما يعني أن التحضيرات لمعركة الجنوب هي مجرد مسرحية هدفها التحرش بإسرائيل، لوضعها في حالة المواجهة المباشرة مع إيران، وبالتالي اتخاذ الإجراءات اللازمة من قبلها مع حليفتها الولايات المتحدة لممارسة ضغوطهما على النظام الإيراني، للخروج بإرادتها من مسرح الوقائع السورية، ما يوفر على النظام الحرج، وعلى موسكو المواجهة مع إيران، وإضعاف تحالفها معها، الذي تعتبره روسيا أحد أوراقها الرابحة في التفاوض مع كل من أميركا والغرب.
وبالعودة إلى الاتفاق الموقع بين الجانبين الروسي والأميركي، فإنه أساساً يضمن الخروج الإيراني وفق بنوده، التي شاركت الأردن فيه كضامنة لفصائل الجيش الحر الملتزمة بتنفيذه حتى اليوم، وهذا ما حركه من جديد الضغط الإسرائيلي من جهة، والحصار الأميركي على إيران من جهة أخرى، ونتج عنه التصريحات الإيرانية التي جاءت على لسان السفير الإيراني في الأردن مؤكدة خلو المنطقة من الوجود العسكري الإيراني، ليكون ذلك مقدمة لإذعان إيران للمطالب الأميركية، ولخوض اتفاقات من نوع جديد مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، لترتيب أوضاعها في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن، وانكفائها من دور القوة التوسعية في المنطقة، إلى دور الشريك الأمني في حفظ حدود إسرائيل كوظيفة مستقبلية، وضمان استقرار الحدود مع جيرانها لإنعاش الواقع الاقتصادي الذي تلعب المصالح الأميركية الدور الرئيسي فيه، أي أن ما يتم اليوم عقد التفاهمات عليه، من تسليم المعارضة لسلاحها الثقيل، ودخول الشرطة الروسية إلى المنطقة، وكذلك استعادة النظام لمعبر نصيب، وعودة مؤسسات الدولة للعمل تدريجاً، ما هو إلا جزء من الاتفاق الذي يعرف تفاصيله قادة الفصائل الملتزمة باتفاق خفض التصعيد، كما تعرفه المعارضة السياسية التي أعلن قادتها انتهاء الصراع مع النظام منذ إعلان البيان المشترك للرئيسين ترامب وبوتين، بعد حديث وصف آنذاك «بالمقتضب» خلال قمة أبك في فيتنام تشرين الثاني (نوفمبر) 2017.
إن استمرار نجاح الاتفاق المعلن في الجنوب، إنما يعبر عن حقيقة مفادها: أن الصراع في سوريا على رغم تعدد الجهات الدولية المتورطة فيه، وتحول الأطراف السورية المعارضة منها أو النظام على حد سواء إلى مجرد أدوات مقيدة بمصالح مشغليها، إلا أنه في النهاية يبقى بين طرفين أساسيين هما الولايات المتحدة وروسيا، وما لم يتوصلا إلى اتفاق سياسي مماثل للصراع في سوريا يفرض بقوة الوجود العسكري والدبلوماسي لهما، فإن كل حديث عن تفاوض مقبل يبقى في إطار التسويق الإعلامي للجهات الراعية له، حتى ولو كانت الأمم المتحدة نفسها، فهل تكون درعا هي اختبار المصالحة الفعلية بين الإرادتين الأميركية والروسية حول سورية.
نقلا عن الحياة اللندنية
لمقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع