تستمر المقتلة السورية في سرد تفاصيلها اليومية الأكثر بشاعة من الغوطة وإدلب وعفرين، تحت مسميات واحدة هي تحرير البلاد من الإرهاب، رغم اختلاف كل طرف من الدول المشاركة في هذه العمليات الوحشية في تعريف الإرهاب، وتصنيف الإرهابيين، ومبدأ التحرير، وشرعية وجودهم أصلاً على الأرض السورية، فحيث تقاسم الرؤساء الثلاثة الضامنون لمسار آستانة مناطق نفوذهم، وساحات قتالهم، وأهدافهم المحتملة، كذلك تقاسموا أيضاً بالتساوي مسؤولياتهم المشتركة مع النظام السوري على كم الدماء المراقة، وأرواح الضحايا وتهديم المدنب نيران قصفهم.
ومن الملاحظ أن تصدر روسيا مشهد العنف الممارس في سوريا، من خلال عملياتها العنيفة في الغوطة، وشدة القصف الجوي، مهد الطريق للقوات البرية التابعة للنظام والميليشيات الإيرانية المساندة لها بالانتشار في مناطق الغوطة، لقطع أوصالها جغرافيا، ومنع تواصل المقاتلين فيما بينهم، بيد أن ذلك لا ينفي أن موسكو تتابع حربها في الغوطة وسط صمت دولي رغم القرار 2401، القاضي بوقف نار لثلاثين يوماً، الذي صدر عن مجلس الأمن في 24 شباط الماضي، والذي على ما يبدو لا يتناقض في صياغته «الرخوة» مع كل القرارات الأممية 17 السابقة الصادرة والمعطَلة، منذ عام 2012 وحتى هذا الوقت، ما هيأ الفرصة لرئيس النظام بشار الأسد بوصف مطالبات القادة الغربيين بوقف المجازر «بالسخيفة»، وفي مواجهة مع كل من يدعو إلى وقف النار، أعلن استمرار عمليته العسكرية، تاركاً تفسيرات المجتمع الدولي لمآلات الصراع تعيد اصطفافها من جديد، خلف محورين يقودهما الروسي كطرف مواجه للمحور الأميركي وشركائه.
وعلى ذلك، أن العملية الروسية في الغوطة تتم في ظل تعاون متبادل مع شريكتها إيران، لفرض تغييرات ميدانية عسكرية، وهذا هو الهدف الروسي، الذي يتمحور حول إنتاج ما يؤدي إلى فرض معادلات سياسية دولية جديدة، تتعامل مع موسكو من موقع صاحب القرار في مصير الحل السوري، وليس فقط كشريك فيه، وفي ذات الوقت فإن هذه المعركة تخدم الرغبة والحاجة الإيرانية إلى إحداث تغييرات ديموغرافية استراتيجية، في كل المناطق التي تحيط بالعاصمة دمشق، وتدخل ضمن مناطق نفوذ إيران حسب خارطة آستانة المتفق عليها بين الأطراف الثلاثة (روسيا، إيران، تركيا)، ضمن اتفاقيات خفض التصعيد، وماهو في سياقها، كاتفاق الغوطتين الموقع في كل من القاهرة وجنيف، والتي جاءت جميعها على خلفية الانتصار الروسي- الإيراني في حلب، وهيأت لسيناريوات مشابهة لإعادة السيطرة إلى النظام في بقية المناطق «المحررة».
في المقابل فإن الصمت التركي عن العمليات الروسية الوحشية في الغوطة، يقابله الصمت الروسي عن العملية العسكرية التركية في عفرين ومحيطها، وهذا كله يدخل ضمن المشهد التكاملي لشركاء مسار آستانة الثلاثة، الذين اصطفوا ضمن المحور الروسي وتقاطعت مصالحهم المتعارضة مع الوجود الأميركي في سورية، واعتبروا أنفسهم وكلاء حصريين للصراع الدائر داخل الحدود السورية، ما نتج عنه التحول المباشر في دور تركيا من راعية وداعمة وموجهة للفصائل المعارضة المقاتلة ضد النظام، إلى التدخل المباشر لقواتها في هذه الحرب، تحت مزاعم حماية أمنها القومي، وتحرير منطقة سورية من «إرهابيين» أكراد، بغض النظر عن رأي الأطراف السورية «غير التابعة لتركيا» من هذا التصنيف، بما فيهم النظام السوري الذي يتدخل حالياً- بطريقة غير مباشرة- في الدفاع عن الوجود الكردي في عفرين ورد الهجوم التركي عنها.
من هنا، يمكن ملاحظة أن الحرب على الإرهاب لها عناوين مختلفة في سورية، فحيث يرى النظام أن الإرهاب تمثله كل البيئة الحاضنة للثورة، من حاملي السلاح إلى المدنيين على حد سواء، وربما يصنف النظام المدنيين المطالبين بالحرية في مستوى أخطر عليه من المسلحين، وهذا ما يفسر العدد الكبير للمعتقلين في سجونه من المتظاهرين والمؤيدين للثورة السلميين، الذين تجاهلتهم كل مراسيم العفو التي صدرت منذ قرابة سبع سنين، ما يجعل حربه على الإرهاب موجهة ضد مناصري الثورة فقط لإعادتهم إلى ما يسميه «حضن الوطن» وهذا ينطبق على البشر منهم والحجر.
أما روسيا فترى أن الإرهابيين الذين تحاربهم هم كل من لا يخضع لشروط الشراكة معها، ومعاييرها مرنة قابلة لتغيير، وفقاً لمقتضيات الاصطفافات التي تفرضها المتغيرات الميدانية والسياسية، وقد شهدنا ذلك ما قبل معركة حلب وما بعدها، وبواقعية أكثر ما قبل ترويض الفصائل من خلال مسار آستانة، وما بعدها، حيث أعادت ترتيب عداواتها بدءاً من شراكاتها الدولية التي كانت تركيا في جهة مقابلة لها، ثم أصبحت ضمن قائمة أتباع محورها، وتأخذ روسيا من الحرب على الإرهاب ذريعة لشن هجماتها ضد السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لجعلها ورقة تفاوض روسية في وجه المجتمع الدولي بما يتعلق بملفات العقوبات الأميركية والأوربية ضدها، ومشروع خط الغاز والدرع الصاروخي ومسألة أوكرانيا.
ومن جهتها، إيران تتماشى مع النظام في تصنيف الإرهابيين على أنهم كل المناهضين لحكم الأسد، إضافة إلى تصنيف مذهبي وهو الأخطر، ترى فيه طهران في «السنة» جميعهم أعداء لها، ولمشروعها الطائفي في المنطقة عموماً، فهي في حروب متعددة معهم في العراق ولبنان وسورية واليمن، ما يجعلها على قائمة الأكثر خطورة على المشاريع الوطنية في سورية، وكل الدول التي تستبيحها إيران بتدخلاتها المباشرة، العسكرية والثقافية والاجتماعية، وأخيراً التعليمية وهو ما يفسر افتتاح فروع الجامعات الدينية الإيرانية في سورية.
بينما تركز تركيا في حربها على حزب العمال الكردستاني المحظور، وكذلك وحدات حماية الشعب المتعاونة معه، المصنفين لديها كإرهابيين، وذلك خلافاً للتصنيف الأميركي والروسي لهم، وكذلك تصنيف النظام السوري الذي بقي مسانداً الحزب وزعيمه حتى العقد الأخير من القرن الماضي، ما جعل جل همها خلال تدخلها المباشر في سورية هو تقويض الحلم الكردي، بإقامة كيان متصل يمتد من عفرين حتى البحر المتوسط، الأمر الذي يجعله في اتصال مباشر مع القرى الكردية التركية التي لا تأمن أنقرة من مشاريعها المستقبلية في الانضمام إليها، وهو ما عجل في فتح معركتها في عفرين ضمن تفاهمات متبادلة مع روسيا وإيران، ما جعل مناطق خفض التصعيد «مشتعلة» لإحداث التغيير الميداني والديومغرافي المطلوب بأسرع وقت ممكن، قبل أن تبدأ اجتماعات قمة آستانة الثلاثية المعلن عنها في 16 من هذا الشهر.
وفي الوقت الذي ترى فيه الولايات المتحدة الأولوية للحرب على الإرهاب الذي تمثله «داعش» والنصرة والقاعدة، وبالتعاون مع القوات الكردية التي تقاتلها تركيا، وتصمت عنها موسكو، تعمد تركيا إلى تجاهل هذه الأولوية الأميركية - الأوربية، وتغيير بوصلة الكرد ليخوضوا حربهم ضدها، تاركين جبهاتهم المدعومة أميركيا ضد «داعش»، ما يهدد بفتح المجال أمام المتطرفين لاستعادة الأراضي المحررة منهم والعودة من جديد لدائرة العنف الدموي القابل للتصدير عالمياً.
وفي ظل كل هذا الاختلاف يبقى التحالف الروسي- الإيراني- التركي قابلاً لمزيد من التفاهمات، ما يجعل قمته المقبلة في آستانة تعوم على بحر من دماء السوريين، ومزيد من التصعيد والعنف، لتقول روسيا للعالم :»إنها فقط ومن خلال تفاهماتها هذه تستطيع إطفاء حرائقها» وليس امتثالاً للقرارات الدولية التي يثبت تاريخ الأمم المتحدة أنها تغرق في عالم النسيان قبل أن يجف حبرها.
نقلًا عن الحياة اللندنية