ليس الهدف من هذا المقال التعليق على حكم الدستورية فى دعوى تنازع الأحكام بشأن معاهدة رسم الحدود مع السعودية. وهو تنازع افتعلته الحكومة عمدا بلجوئها إلى محكمة غير مختصة هى محكمة الأمور المستعجلة لوقف تنفيذ حكم مجلس الدولة بالمخالفة الصريحة للمادة ١٩٠ من الدستور. الهدف من المقال رصد ردود الأفعال على الحكم. ألح علىّ الكثيرون لتوضيح ما استغلق عليهم من فنيات الحكم وذاعت الدعايات الإعلامية المخادعة ومحاولة الإيحاء بأنه يعنى سعودية الجزيرتين، ونشرت الصحف عن ردود أفعال بعض نواب البرلمان. منها ردود أفعال وقورة (وإن كنا لا نتفق معها) مثلما صرح به كثير من النواب من أن الحكم أثبت صحة المسار الذى اتخذه البرلمان بمضيه قدما فى إقرار المعاهدة. والرد عليهم ميسور: إن البرلمان أصر على إقرار المعاهدة بعد صدور حكم واجب النفاذ من المحكمة الإدارية العليا ببطلانها ولم يكن قرار رئيس الدستورية بوقف تنفيذ الأحكام قد صدر بعد. المجلس وقت موافقته على المعاهدة لم تكن أمامه معاهدة أصلا لأن القضاء فى أعلى درجاته كان قد حكم بإعدامها.
هناك ردود أفعال منفلتة وطائشة منها ما صرح به أحد النواب من أن الحكم يمثل صفعة للمدافعين عن مصرية الجزيرتين. ومنها ما صرح به شيخ الإعلاميين من أن هذا الحكم يقطع ألسنة الخونة. فات هؤلاء أن الذى قرر مصرية الجزيرتين هو مجلس الدولة بدرجتيه. فهذه التصريحات تمثل جريمة إهانة القضاء المعاقب عليها قانونا.
ونسب أيضا إلى رئيس المجلس قوله «إن حكم المحكمة الدستورية العليا والقاضى بصحة اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والمملكة العربية السعودية، يستوجب اعتذار الأعضاء الذين شككوا فى صحتها». هذا التصريح يستنطق الحكم بما لم يقله وينسب له مضمونا غريبا عنه.
أحسب أن خبرتى فى تعليم القانون ومنطق الاستدلال والتفسير القانونى مدة تربو على الأعوام الأربعين تشفع لى فى الاجتهاد لفهم ما نشر من أسباب الحكم والتعليق على هذه التصريحات.
وأثبت التالى:
١- حكم المحكمة الدستورية صدر فى مادة تنازع أحكام قضائية بمقتضى المادة ٢٥ من قانونها. فما كان معروضا على المحكمة الدستورية هو رفع التنازع بين حكمين متعارضين صادرين من جهتين مختلفتين. لم يتطرق الحكم لمسألة دستورية المعاهدة. أثبت الحكم أن حكم محكمة الأمور المستعجلة حكم منعدم لصدوره من جهة لا اختصاص لها ( م ١٩٠ من الدستور )، وأن الحكمين الصادرين عن مجلس الدولة أخطآ عندما تعرضا لعمل من أعمال السيادة التى تنأى عن رقابة المجلس. وحتى لو سلمنا بخطأ حكم مجلس الدولة (وهو أمر محل نظر لأنه لا سيادة للسلطة التنفيذية فى مخالفة الدستور) فإن مؤدى القول بانعدام حكم محكمة الأمور المستعجلة انتفاء حالة التنازع، لأننا نكون بصدد حكم واحد صادر من مجلس الدولة أيا كان وجه الرأى فيه ولا ينازعه حكم آخر. انعدام حكم محكمة الأمور المستعجلة مقطوع به بنص دستورى صريح. واعتبار المعاهدة من أعمال السيادة أمر مختلف عليه ومحل تقدير وخلاف، والمحكمة الدستورية ليست جهة للطعن الموضوعى فى أحكام القضاء الإدارى، ولكن اختصاصها محدد على وجه الحصر فى المادة ٢٥ من قانونها برفع حالة التنازع بين حكمين. ولا تنازع بين حكم وقتى منعدم صادر من محكمة دنيا غير مختصة وحكم بات صادر من أعلى محكمة إدارية فى مصر.
٢- أن الحكم الدستورى لم يؤيد صحة المعاهدة دستوريا فهذا الأمر لم يكن مطروحا. وعلى العكس احتفظت المحكمة لنفسها بسلطة مراقبة المشروعية الدستورية للمعاهدة من حيث الشكل والمضمون مستقبلا. وهذا ما طمسه عمدا المهللون والشتامون.
٣- والمعاهدة معيبة شكلا لأن من أبرمها غير مختص وهو رئيس الوزراء فى حين أن الدستور ينص صراحة على أن إبرام المعاهدات ولاية سيادية لرئيس الجمهورية لا يفوض غيره فيها.
٤- وظنى أنه لو طلب من المحكمة الدستورية أن تفصل فى دستورية المعاهدة موضوعيا لقضت بعدم دستوريتها أيضا وذلك لمخالفتها الصريحة لنص المادة الأولى من الدستور، والفقرة الثالثة من المادة ١٥١ منه واللتان تحظران التنازل عن شىء من الإقليم. وقد أورد حكما مجلس الدولة مائة وأربعة وثلاثين دليلا ساطعا على مصرية الجزيرتين وعلى مخالفة المعاهدة للدستور. وهى أدلة لم يجادل فيها أحد ولم يناقشها البرلمان وستعرض حتما على المحكمة الدستورية إذا اتصلت بالدعوى.
٥- لقد عدلت المحكمة الدستورية فى حكمها عما سبق أن استقرت عليه من أن اعتبار مسألة ما من أعمال السيادة هو أمر من سلطة محكمة الموضوع وحدها والمحكمة الدستورية فى حالتنا ليست محكمة موضوع ولكنها محكمة فصل فى تنازع. فضلا عن أن فكرة أعمال السيادة مرنة تضيق وتتسع، وليست كل المعاهدات من أعمال السيادة. ومن أشهر أحكام المحكمة الدستورية فى هذا المعنى حكمها الصادر بجلسة ١٩ يونيو سنة ١٩٩٣ والذى قررت فيه صراحة «أن أعمال السيادة التى تنأى عن رقابة القضاء هى التى تأتى استجابة لدواعى الحفاظ على الدولة والذود عن سيادتها ورعاية مصالحها العليا، وتقتضى لذك منح السلطتين التنفيذية والتشريعية سلطة تقديرية أوسع مدى وأبعد نطاقا تحقيقا لصالح الوطن وسلامته». وأردفت المحكمة أنه «ليس صحيحا إطلاق القول بأن جميع الاتفاقيات الدولية ــ أيا كانت موضوعاتها - تصبح من الأعمال السياسية تلقائيا وتخرج من نطاق الرقابة القضائية».فلا سيادة للسلطة التنفيذية فى التنازل عن الإقليم بالمخالفة للدستور.
وهنا يواجه نظام المشروعية فى مصر بإشكالية مستعصية نتجت عن حكم الدستورية. إذ ليس للقضاء الإدارى وفقا لحكم الدستورية أن ينظر فى دعوى بطلان المعاهدة لتعلقها بأعمال السيادة، وهذا الاختصاص تستأثر به المحكمة الدستورية بعد نشر المعاهدة، ومع ذلك فالطريق الوحيد التى تصل بها الدعوى للمحكمة الدستورية أن يقدر القضاء الإدارى جدية عدم دستوريتها، وكيف له أن يقدر ذلك وهو الممنوع أصلا من نظرها؟ ونظامنا القضائى لا يعرف الدعوى الدستورية المباشرة. فلا القضاء الإدارى بقادر على مراقبة مشروعية المعاهدة لزعم تعلقها بأعمال السيادة، ولا القضاء الدستورى بمستطيع فرض رقابته عليها عمليا لأن أبوابه مغلقة، حيث لا يوجد قضاء موضوعى مخول بتقدير جدية عدم الدستورية الذى وهو شرط لاتصال المحكمة الدستورية بالدعوى.
وهكذا تطلق يد السلطة التنفيذية متحررة من كل قيد فى إبرام معاهدات مخالفة للدستور بعيدا عن رقابة القضاء. وكنا نتوقع من المحكمة الدستورية أن ترشدنا لحل هذه الإشكالية التى تهدد مجمل المشروعية الدستورية فى مصر.
والخلاصة أن حكم الدستورية الأخير لم يفصل فى موضوع دستورية المعاهدة، وإنما غل يد قضاء الموضوع عن رقابتها. ولكن مئات الحجج التى كشف عنها مجلس الدولة ستظل شاخصة تعلن فى وضوح أن المعاهدة تنطوى على تنازل محظور دستوريا عن أرض مصر وهى حجج لم يدحضها أحد.
ورغم ذلك يطلب من المدافعين عن الأرض والدستور تقديم الاعتذار عن وطنيتهم، وترتفع الأصوات تهليلا لتمجيد التفريط فى الأرض والتحايل على الدستور.
وستظل تيران وصنافير مصريتين فى وجدان شعب مصر وقضاء مصر.
نقلًا عن المصري اليوم القاهرية