فى عام ١٩٤٥ نشر عالم الاجتماع الأمريكى ذو الأصل النمساوى كتابه الأشهر «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، حلل فيه بمهارة شديدة البنية المعرفية والسياسية للمجتمعات المغلقة. إنها المجتمعات التى تعتمد القوة على حساب العقل، وهيمنة الجماعات المسيطرة بدلا من التعددية، والتمييز على حساب المساواة، والقهر والإملاء بدلا من الحرية، وسيطرة الرأى الواحد بدلا من تعدد الآراء.
ويعتبر هذا الكتاب المناهض لفكر ولتجارب الدولة الشمولية هو دستور الليبرالية فى الغرب فى القرن العشرين وما بعده. ولعب نفس الدور المعرفى لكتابات لعبت دورها فى التشريح الوظيفى للاستبداد والمجتمعات المغلقة عندنا، مثل كتاب طبائع الاستبداد ومصارع العباد لعبد الرحمن الكواكبى، وكتابى «الطاغية» و«الأخلاق والسياسة» لفيلسوفنا المعاصر إمام عبد الفتاح إمام.
المجتمع السياسى تتصارع فيه بالضرورة المصالح وتتعدد فيه الآراء والمعتقدات والأديان والطبقات والمستويات الثقافية والاقتصادية. إدارة هذا التنوع المعقد على مدى التاريخ يكون بطريقين: الطريق الأول هو القهر والإملاء والسيطرة والقبضة الحديدية، وإصدار القوانين التى تجرم كل همس وتبيح كل نفاق، واستخدام أبواق إعلامية تردد ما يملى عليها. والطريق الثانى وهو الأصعب يتمثل فى النوافذ وإدارة التنوع والخلافات بتوافق مجتمعى واحترام حقوق الإنسان.
الطريق الأول له دعايته ومبرراته المعلنة فى خطابه وله أنصاره وأدواته. المبررات المعلنة للمجتمع الشمولى قد تكون ترويجا لمذهب سياسى أو عقيدى، وقد تكون تحذيرا من أخطار محدقة حقيقية أو غير حقيقية وقد تكون تمجيد الدولة على حساب المجتمع والفرد.
استخدمت الاشتراكية المتزمتة دافعا عقيديا لغلق نوافذ المجتمع بإحكام، واضطهاد مفكريه ومعارضيه. واستخدمت النازية (الاشتراكية الوطنية) دافعا لذوبان الفرد فى الدولة وذوبان الدولة فى شخص الفوههر مما أدى بالعالم كله إلى كارثة كبرى فى الحرب العالمية الثانية.
وفى الستينيات وما بعدها كانت القومية ممزوجة بأفكار مشوهة عن الاشتراكية مبررا لقهر الشعوب العربية واضطهاد وقتل المعارضين وتأليه الحاكم.
كان أول ما يطالع القادم إلى بغداد كلمات صدام حامى العروبة، والقادم إلى دمشق عبارات التمجيد فى حافظ الأسد (رئيسنا إلى الأبد)، وفى ليبيا شعارات الزحف الأخضر وخطابات القذافى. كانت اللجان الثورية فى ليبيا تدخل مدرجات الجامعة وتسوق أساتذة الجامعة المفكرين إلى منصة الإعدام فى ساحة الجامعة بعد محاكمة لا تستغرق إلا دقائق. وفى الوقت الذى كان يمارس فيه خداع الشعوب باسم الالتفاف حول الزعيم الملهم الذى يحمى الشعب من الأخطار المحدقة كان الفساد يستشرى فى البلاد يتحصن بدرع النفاق، وكان المجتمع ينهار وتأكله القوارض من الداخل، وكان الإعلام يردد نشيدا وطنيا واحدا.
أذكر فى الثمانينيات أن دعينا إلى ليبيا فى ندوة عن مستقبل الديموقراطية فى العالم العربى. وجهت الدعوة لحضور هذه الندوة لعشرات الإعلاميين والجامعيين والمفكرين المصريين والعرب. دخل علينا محاضرا السيد عبد السلام جلود رئيس الوزراء وقتئذ ويبدو أنه كان مخمورا. ألقى محاضرة ساذجة ومملة وسخيفة عن النظرية العالمية الثالثة. بعد أن انتهى فتح باب النقاش. وجهت له سؤالا وقلت: إذا حدث وأجرت الدولة استفتاء حرا حول نظامها السياسى وجاءت النتيجة بالرفض، فهل تتخلون عن النظرية العالمية الثالثة؟.
بهت الرجل واستشاط غضبا وأبدى تعجبه من كونى أستاذا جامعيا (كما يتعجب البعض اليوم من كونى فقيها دستوريا). ردت عنى هجومه الكاتبة المناضلة أمينة شفيق مذكرة إياه بمكانته ومكانى. أثناء ذلك كانت تعلو هتافات ممثلى الأحزاب العربية تمجيدا للقذافى ونظامه. وكانت تحرر لهم الشيكات وتسرب خفية من تحت المنضدة. هذه هى سياسات وأدوات ومبررات وآليات النظم المغلقة التى تكتب شهادة وفاتها بمجرد ميلادها بسياسة القهر والإغواء والإغراء.
المجتمع المفتوح يأمن فيه المواطن على نفسه وكرامته، تفتح فيه نوافذ الرأى والتعبير والتنظيم وتداول السلطة ورقابة الشعب على الحكومة.
المجتمع المفتوح هو الذى تستقل فيه السلطات استقلالا حقيقيا ويراقب بعضها البعض فى ظل سيادة القانون العادل الذى يؤكد الحرية والديمقراطية والمساواة والتعددية وتكافؤ الفرص، القانون الذى يصدر بعد حوار مجتمعى داخل وخارج برلمان حر منتخب ديمقراطيا. المجتمع المفتوح هو الذى تنصت فيه سلطات الدولة لرأى الشعب الذى هو وحده مصدر السلطات، ويدرك فيه الناس أنهم شركاء فى صنع مصائرهم.
المجتمع المفتوح هو الذى ينأى عن إعلام الصوت الواحد، ويفتح نوافذه الإعلامية لكافة التوجهات تعبر عن رأيها فى أمن وسلام احترام لقواعد الحوار.
المساجلة والاحتراب الفكرى شىء والحوار شىء آخر. الحوار المنتج له مقوماته وشروطه من حيث أطرافه وموضوعه وتقاليده.
المعارضة هى ضمير الوطن. المعارضة تقرع نواقيس التحذير وتبين العواقب وتوضح البدائل وتتقدم بالشرعية نحو الحكم. لو كانت هناك معارضة حقيقية لما حدثت هزيمة ١٩٦٧، ولما انهارت النظم القومية العربية، والنظم الاشتراكية التقليدية كما تنهار نصب الجليد.
المعارضة الحقة هى صمام الأمن الوطنى. ليس هناك نظام لا يخطئ. كل النظم تخطئ ولكن النظم الرشيدة تنصت لمنتقديها، وتصحح أخطاءها، وتغادر مقاعدها عندما تنتهى ولايتها لتترك الأمر للشعب دون تزييف لوعيه.
الرأى الآخر يناقشه المجتمع المفتوح بالحجة والرأى وليس بتسليط ماكينة السب والتشويه الإعلامى. صاحب الحجة يحرص على إقناع الآخرين بحجته. خلو المجتمع المغلق من مؤسسات للتفكير قادرة على الإقناع والأخذ والرد هو الخطر الأول الذى يهدد أركان الاستقرار. أن يتحول الإعلاميون إلى شتامين هجائين حاملين للتسريبات والتشهير بالآخرين لن ينتج إلا مزيدا من الاحتقان.
نحلم بمجتمع مفتوح تفتح فيه كل النوافذ، وتتفتح فيه كل الزهور. بناء أخلاق البشر كما قال بحق الرئيس لن تقدر عليه الدولة. ولكنه لن يتم بواسطة مجتمع مدنى مكبل اليدين محاط بالاتهامات والتهديد والزواجر.
نحلم بمجتمع تتعدد فيه الرؤى السياسية والدينية ويتساوى الجميع أمام القانون العادل ويبتسم الجميع فى وجه بعضهم البعض حتى وهم يعانون ويحملون الأحجار لبناء الوطن.
فهل هى أضغاث أحلام؟
نقلًا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع