إصلاح الهيكل الوظيفى وتقويم أدائه من شواغل الدولة المصرية منذ القدم. حديث التاريخ ليس مجرد رواية مسلية، فخبراته مكون رئيسى للوعى الجمعى بما يفسر حاضرنا.
كانت الوظائف الكبرى فى مصر العثمانية تباع فى الآستانة بالمزاد. من يرسو عليه تطلق يده فى بيع الوظائف الأدنى حتى قاع السلم الوظيفى ليسترد الموظفون ما دفعوه مكوسا على طالبى خدماتهم من فقراء المصريين.
حرص الفرنسيون بعد الحملة على التعرف إلى نظام الإدارة والقضاء بالبلاد، فأرسلوا إلى حسين أفندى الروزنامجى (أمين الإدارة والمال) وإلى قاضى القضاة، الشيخ أحمد العريشى، مجموعة من الأسئلة، وقدما إجاباتها فى وثيقتين: الأولى عن (ترتيب الديار المصرية) نشرها المؤرخ محمد شفيق غربال فى دراسته بمجلة كلية الآداب فى الثلاثينيات.
والثانية بعنوان (دفتر فى علم وبيان القضاة فى مصر المحروسة) نشرناها فى كتابنا (التاريخ الاجتماعى للقانون فى مصر الحديثة).
كان موظفو مصر فى هذا الزمان يحيطون عملهم بسياج من السرية، فيكتبون وثائقهم بخط غير مقروء للعامة، يسمى (خط القرمة). هل يرجع سوء خط موظفى اليوم إلى هذه العادة القديمة؟ الشرطة أيضا فى مصر العثمانية كانت تفرض (مال الحماية) على من يطلب منها الأمن. نازعها فى ذلك (الفتوات) كقطاع خاص للعنف ورد الحقوق لأصحابها. وهو ما أبدع فى تصويره أديبنا العبقرى نجيب محفوظ، وحظى نظام (الفتوة) بدراسات وافية من الباحثين الأجانب.
كان القضاة الشرعيون يتعيّشون من الرسوم القضائية. وقد وصفهم كبيرهم الشيخ العريشى فى وثيقته بأنهم (ناس فقراء أصحاب عيال مستحقون لهذه الخدمة الشريفة).
ظلت كفاءة الموظفين العامة ورشدهم شاغلا لأهل الحكم فى مصر، وإن اختلفت المعايير والأهداف. حول محمد على باشا بإنشائه الدواوين الموظفين من مرتزقة جباية إلى وكلاء للدولة الموحدة.
أصبحت الوظيفة العامة ذراع الدولة فى خدمة تأدية واجبات الدولة وفى اقتضاء حقوقها. كان الولاء للحاكم هو معيار كفاءة الموظف الذى ينفذ التعليمات وإن خالفت القانون.
وفى عصر الحداثة، حيث سيادة مبدأ الدستورية وحكم القانون لم تعد الوظيفة العامة (نظريا على الأقل) مجرد سلطة مطلقة يتمتع بها الموظف، بل هى أداة جبر مقيدة بالقانون لإنزال حكمه، وما الموظف العام إلا ذراع الدولة فى تطبيقه. الانحراف يحدث عندما تتحول السلطة إلى ميزة يستخدمها الموظف العام لتحقيق الصالح الشخصى على حساب الصالح العام. وعادة ما يكون ذلك مقابل إظهار الولاء المطلق للحاكم المستبد.
فى لحظات الاستبداد والانحطاط والتدهور يصبح ولاء الموظف العام لأهل الحكم مقدما على ما عداه، حتى لو كان هذا الولاء مرتبطا بمخالفة قواعد القانون. ولا مجال فى هذا المناخ للتفوق والابتكار فى أداء الموظف. بل قد تغمض السلطة العامة عيونها عن فساد موظفيها مقابل الولاء تقديمهم لها.
وتنزع دولة الاستبداد إلى الإفراط فى المجاملة فى التعيين فى الوظائف من بين الموالين لها والأوفياء لأجهزتها فى المواقع القيادية. وهؤلاء بطبيعتهم محدودو الكفاءة. وهنا أس الداء وأساس البلاء فى انهيار الهيكل الإدارى للدولة؛ إذ يتحول إلى كيان ضخم الجسد أخطبوطى الأذرع شديد الشراهة محدود الكفاءة بطىء الحركة يظهر الولاء الزائف لمن هم أعلى، ويمارس القهر والابتزاز على من هم أدنى، وهو فى هذا وذاك يلتهم فى طريقه كل المزايا والقيم والمنافع.
الإدارة الرشيدة مرتبطة فى زماننا بالديمقراطية والفساد قرين الاستبداد.
ننتقل للحديث عن خبرات الواقع.
كان لى حظ التردد بحكم عملى السابق فى المنظمات الدولية على كبار الموظفين فى دول الاستبداد والحرية والتقدم والتخلف. فى الدول الثانية يزهو المسؤول بأبهة مظهره ومكتبه وسيارته وما يقتنصه من منافع من وظيفته. فى الدول الأولى شاغل الموظف العام الكفاءة والابتكار.
فى إحدى دول آسيا الوسطى حيث كنت أعمل، جلست فى مكتبى ذات صباح بالمبنى الزجاجى المواجه لقصر الحكومة مطلا على أفق ممتد من الجليد. فجر الإرهابيون سيارة مفخخة فى الميدان الحكومى.. فجأة تحول المبنى الزجاجى الذى أجلس فيه إلى مجرد مصاطب عارية معلقة فى الفضاء فى فراغ الصقيع. الوزير المسؤول بالمبنى (صاحب المكتب الفخم والسيارة الفارهة) لم يهتم بأمن مبناه والعاملين به بل سارع مهرولا ليصل القصر الرئاسى قبل غيره مطمئنا على سلامة رئيس الدولة. وقد حفظ له الرئيس الجميل بأن سمح له لاحقا أن يترشح صوريا أمامه فى انتخابات الرئاسة تأكيدا للمظهر الديمقراطى أمام العالم.
عملت بعد ذلك فى دولة رعاة الجليد والاستبس ( منغوليا). دعيت لحفل استقبال بمناسبة تعيين وزير دفاع جديد. لاحظت فى الحفل تجمهر الجنرالات حول شخص مدنى يحتفون به، ويبادلونه الأنخاب. فى ركن بعيد وقف جنرال منعزل لا يحادثه أحد. علمت أن الأول هو الوزير السابق، وأن الثانى هو الوزير اللاحق. هذا مجتمع الفطرة الذى لم تشوهه السلطة.
فى التسعينيات دعيت إلى بروكسل لوضع مشروع لائحة لمركز للتحكيم التجارى الإسلامى. تحدد لى موعد لمقابلة وزير التجارة. الرجل يجلس فى حجرة صغيرة متواضعة الأثاث مماثلة لمكتب مساعدته. حان موعد الغداء، فدعانى لتناوله فى مطعم المبنى، ووقفنا صفا مع باقى العاملين انتظارا لدورنا دون أن يفسح أحد الطريق لمعالى الوزير وضيفه.
منذ عدة سنوات، كنت نائبا لرئيس المجلس القومى للمرأة. ذهبت إلى باريس لحضور مؤتمر عالمى عن القانون والمرأة. كان أغلب المشاركين من الوزراء المسؤولين عن قضايا المرأة فى بلدانهم. فى نهاية المؤتمر دعانا الرئيس (أولان) لتناول العشاء فى قصر الإليزيه. لم أشهد هناك حراسة أمنية ظاهرة تستعرض قوتها، وتفتش الضيوف، بل هناك عدد قليل من موظفى البروتوكول يرشدون المدعوين.
قبل وصول موكب الرئيس بدقائق طلبت أن أذهب إلى سيارتى لإحضار دواء افتقدته لأتناوله قبل الطعام. ذهبت رغم أن موكب الرئيس كان قد لاح، وكانت عودتى سابقة بثوانٍ دخول الرئيس، ولم ينزعج أو يتوتر أحد.
جلس معى على مائدة العشاء عدد من السفراء الأوروبيين الذين كانوا مهتمين بالحديث فى الشأن المصرى وعن الفارق بين دستور ٢٠١٢ ودستور ٢٠١٤ بالنسبة لأوضاع المرأة، كانوا يضحكون، ويتمازحون، ويأكلون طعامهم البسيط، مما أعاد إلى ذاكرتى حديث أحمد العريشى عن قضاته بأنهم «ناس فقرا أصحاب عيال مستحقون لهذه الخدمة الشريفة».
موظفون هناك وموظفون هنا.
ونتابع الحديث...
نقلًا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع