توقيت القاهرة المحلي 22:14:20 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الموظفون فى الأرض!

  مصر اليوم -

الموظفون فى الأرض

بقلم : محمد نور فرحات

إصلاح الهيكل الوظيفى وتقويم أدائه من شواغل الدولة المصرية منذ القدم. حديث التاريخ ليس مجرد رواية مسلية، فخبراته مكون رئيسى للوعى الجمعى بما يفسر حاضرنا.

كانت الوظائف الكبرى فى مصر العثمانية تباع فى الآستانة بالمزاد. من يرسو عليه تطلق يده فى بيع الوظائف الأدنى حتى قاع السلم الوظيفى ليسترد الموظفون ما دفعوه مكوسا على طالبى خدماتهم من فقراء المصريين.

حرص الفرنسيون بعد الحملة على التعرف إلى نظام الإدارة والقضاء بالبلاد، فأرسلوا إلى حسين أفندى الروزنامجى (أمين الإدارة والمال) وإلى قاضى القضاة، الشيخ أحمد العريشى، مجموعة من الأسئلة، وقدما إجاباتها فى وثيقتين: الأولى عن (ترتيب الديار المصرية) نشرها المؤرخ محمد شفيق غربال فى دراسته بمجلة كلية الآداب فى الثلاثينيات.

والثانية بعنوان (دفتر فى علم وبيان القضاة فى مصر المحروسة) نشرناها فى كتابنا (التاريخ الاجتماعى للقانون فى مصر الحديثة).

كان موظفو مصر فى هذا الزمان يحيطون عملهم بسياج من السرية، فيكتبون وثائقهم بخط غير مقروء للعامة، يسمى (خط القرمة). هل يرجع سوء خط موظفى اليوم إلى هذه العادة القديمة؟ الشرطة أيضا فى مصر العثمانية كانت تفرض (مال الحماية) على من يطلب منها الأمن. نازعها فى ذلك (الفتوات) كقطاع خاص للعنف ورد الحقوق لأصحابها. وهو ما أبدع فى تصويره أديبنا العبقرى نجيب محفوظ، وحظى نظام (الفتوة) بدراسات وافية من الباحثين الأجانب.

كان القضاة الشرعيون يتعيّشون من الرسوم القضائية. وقد وصفهم كبيرهم الشيخ العريشى فى وثيقته بأنهم (ناس فقراء أصحاب عيال مستحقون لهذه الخدمة الشريفة).

ظلت كفاءة الموظفين العامة ورشدهم شاغلا لأهل الحكم فى مصر، وإن اختلفت المعايير والأهداف. حول محمد على باشا بإنشائه الدواوين الموظفين من مرتزقة جباية إلى وكلاء للدولة الموحدة.

أصبحت الوظيفة العامة ذراع الدولة فى خدمة تأدية واجبات الدولة وفى اقتضاء حقوقها. كان الولاء للحاكم هو معيار كفاءة الموظف الذى ينفذ التعليمات وإن خالفت القانون.

وفى عصر الحداثة، حيث سيادة مبدأ الدستورية وحكم القانون لم تعد الوظيفة العامة (نظريا على الأقل) مجرد سلطة مطلقة يتمتع بها الموظف، بل هى أداة جبر مقيدة بالقانون لإنزال حكمه، وما الموظف العام إلا ذراع الدولة فى تطبيقه. الانحراف يحدث عندما تتحول السلطة إلى ميزة يستخدمها الموظف العام لتحقيق الصالح الشخصى على حساب الصالح العام. وعادة ما يكون ذلك مقابل إظهار الولاء المطلق للحاكم المستبد.

فى لحظات الاستبداد والانحطاط والتدهور يصبح ولاء الموظف العام لأهل الحكم مقدما على ما عداه، حتى لو كان هذا الولاء مرتبطا بمخالفة قواعد القانون. ولا مجال فى هذا المناخ للتفوق والابتكار فى أداء الموظف. بل قد تغمض السلطة العامة عيونها عن فساد موظفيها مقابل الولاء تقديمهم لها.

وتنزع دولة الاستبداد إلى الإفراط فى المجاملة فى التعيين فى الوظائف من بين الموالين لها والأوفياء لأجهزتها فى المواقع القيادية. وهؤلاء بطبيعتهم محدودو الكفاءة. وهنا أس الداء وأساس البلاء فى انهيار الهيكل الإدارى للدولة؛ إذ يتحول إلى كيان ضخم الجسد أخطبوطى الأذرع شديد الشراهة محدود الكفاءة بطىء الحركة يظهر الولاء الزائف لمن هم أعلى، ويمارس القهر والابتزاز على من هم أدنى، وهو فى هذا وذاك يلتهم فى طريقه كل المزايا والقيم والمنافع.

الإدارة الرشيدة مرتبطة فى زماننا بالديمقراطية والفساد قرين الاستبداد.

ننتقل للحديث عن خبرات الواقع.

كان لى حظ التردد بحكم عملى السابق فى المنظمات الدولية على كبار الموظفين فى دول الاستبداد والحرية والتقدم والتخلف. فى الدول الثانية يزهو المسؤول بأبهة مظهره ومكتبه وسيارته وما يقتنصه من منافع من وظيفته. فى الدول الأولى شاغل الموظف العام الكفاءة والابتكار.

فى إحدى دول آسيا الوسطى حيث كنت أعمل، جلست فى مكتبى ذات صباح بالمبنى الزجاجى المواجه لقصر الحكومة مطلا على أفق ممتد من الجليد. فجر الإرهابيون سيارة مفخخة فى الميدان الحكومى.. فجأة تحول المبنى الزجاجى الذى أجلس فيه إلى مجرد مصاطب عارية معلقة فى الفضاء فى فراغ الصقيع. الوزير المسؤول بالمبنى (صاحب المكتب الفخم والسيارة الفارهة) لم يهتم بأمن مبناه والعاملين به بل سارع مهرولا ليصل القصر الرئاسى قبل غيره مطمئنا على سلامة رئيس الدولة. وقد حفظ له الرئيس الجميل بأن سمح له لاحقا أن يترشح صوريا أمامه فى انتخابات الرئاسة تأكيدا للمظهر الديمقراطى أمام العالم.

عملت بعد ذلك فى دولة رعاة الجليد والاستبس ( منغوليا). دعيت لحفل استقبال بمناسبة تعيين وزير دفاع جديد. لاحظت فى الحفل تجمهر الجنرالات حول شخص مدنى يحتفون به، ويبادلونه الأنخاب. فى ركن بعيد وقف جنرال منعزل لا يحادثه أحد. علمت أن الأول هو الوزير السابق، وأن الثانى هو الوزير اللاحق. هذا مجتمع الفطرة الذى لم تشوهه السلطة.

فى التسعينيات دعيت إلى بروكسل لوضع مشروع لائحة لمركز للتحكيم التجارى الإسلامى. تحدد لى موعد لمقابلة وزير التجارة. الرجل يجلس فى حجرة صغيرة متواضعة الأثاث مماثلة لمكتب مساعدته. حان موعد الغداء، فدعانى لتناوله فى مطعم المبنى، ووقفنا صفا مع باقى العاملين انتظارا لدورنا دون أن يفسح أحد الطريق لمعالى الوزير وضيفه.

منذ عدة سنوات، كنت نائبا لرئيس المجلس القومى للمرأة. ذهبت إلى باريس لحضور مؤتمر عالمى عن القانون والمرأة. كان أغلب المشاركين من الوزراء المسؤولين عن قضايا المرأة فى بلدانهم. فى نهاية المؤتمر دعانا الرئيس (أولان) لتناول العشاء فى قصر الإليزيه. لم أشهد هناك حراسة أمنية ظاهرة تستعرض قوتها، وتفتش الضيوف، بل هناك عدد قليل من موظفى البروتوكول يرشدون المدعوين.

قبل وصول موكب الرئيس بدقائق طلبت أن أذهب إلى سيارتى لإحضار دواء افتقدته لأتناوله قبل الطعام. ذهبت رغم أن موكب الرئيس كان قد لاح، وكانت عودتى سابقة بثوانٍ دخول الرئيس، ولم ينزعج أو يتوتر أحد.

جلس معى على مائدة العشاء عدد من السفراء الأوروبيين الذين كانوا مهتمين بالحديث فى الشأن المصرى وعن الفارق بين دستور ٢٠١٢ ودستور ٢٠١٤ بالنسبة لأوضاع المرأة، كانوا يضحكون، ويتمازحون، ويأكلون طعامهم البسيط، مما أعاد إلى ذاكرتى حديث أحمد العريشى عن قضاته بأنهم «ناس فقرا أصحاب عيال مستحقون لهذه الخدمة الشريفة».

موظفون هناك وموظفون هنا.

ونتابع الحديث...

نقلًا عن المصري اليوم

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الموظفون فى الأرض الموظفون فى الأرض



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:04 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية
  مصر اليوم - حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 15:30 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ميتا تعتزم إضافة الإعلانات إلى ثردز في 2025
  مصر اليوم - ميتا تعتزم إضافة الإعلانات إلى ثردز في 2025

GMT 11:43 2024 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

تامر حسني يدعو لتبني طفل عبقري

GMT 14:33 2024 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الملكة رانيا العبدالله تستمتع بوقتها مع حفيدتها

GMT 07:55 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتقاضى 634 ألف دولار يومياً مع النصر السعودي

GMT 09:37 2024 الخميس ,10 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار السيارات الكهربائية في طريقها لتراجع كبير

GMT 01:56 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

التعليم.. والسيارة ربع النقل!

GMT 05:08 2024 الأربعاء ,21 آب / أغسطس

مرشح رئاسي معتدل ينتقد سياسة الحجاب في إيران

GMT 05:33 2021 الأحد ,26 كانون الأول / ديسمبر

جالطة سراي يخطر الزمالك بتفعيل بند شراء مصطفى محمد

GMT 03:52 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تدريس الرياضيات يحسّن من مستوى الطلبة؟

GMT 23:31 2019 الخميس ,10 كانون الثاني / يناير

توقيف سيدة تُدير شبكة دعارة داخل شقة سكنية في السويس

GMT 18:19 2021 السبت ,10 إبريل / نيسان

«المركزي» يعلن مواعيد عمل البنوك في رمضان 2021

GMT 12:03 2021 الأربعاء ,10 شباط / فبراير

قمة نارية بين برشلونة وإشبيلية في نصف نهائي الكأس
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon