بقلم - فاتنة الدجاني
قيل ما قيل في التحضير لعقد المجلس الوطني الفلسطيني، وكذلك في التعليق على مخرجاته. الرئيس محمود عباس قال كلمته، وكذلك الذين يستعدون لدخول المجلس، وأولئك الذين يغادرونه، والذين يقاطعونه أو يشاركون فيه... والشعب يتابع بلامبالاة.
لم يكن في ذلك ما يبدو مفاجئاً أو غير متوقع. ما يهمنا هو موقف المثقفين الذين استبَقوا اجتماعات المجلس بـ «بيان سياسي إلى الرأي العام الفلسطيني»، حمل تواقيع عشرات منهم، ودعا إلى إنشاء منبرٍ يعبر عن «حقوق الشعب الفلسطيني وتطلعات غالبيته»، ولاحقاً انتقادات المثقفين، التي أخذت على الرئيس محمود عباس إغفاله في خطابه أمام المجلس دورَهم، وصيَغ نتاجاتهم المختلفة في المسيرة الوطنية، حاضراً وماضياً.
ما يتطلع إليه المثقفون طبيعي ومنطقي، وهو ما تتطلع إليه الغالبية، يطالبون بخطوات إجرائية لصوغ الرؤى والخيارات الوطنية من أجل إعادة الفاعلية إلى المؤسسات الفلسطينية، من خلال «خيارات كفاحية جديدة ومغايرة، تتأسس على الواقعية والعقلانية، والتمسك بقيم الحرية والحقيقة والعدالة، وتُوازن بين الواقع والطموح والإمكان والرغبات، والعاملَين الداخلي والخارجي، من دون أن يُجحف أحدهما بالآخر».
هذه المطالب والاشتراطات تبيانٌ وإفصاحٌ عن النواقص في المشهد السياسي الفلسطيني. الأجواء المواكبة لاجتماع المجلس الوطني فضحت المآخذ على أداء السلطة، ومفاعيل الانقسام، وغياب الإستراتيجية الوطنية الجامعة، وبروز المثالب المجتمعية من العشائرية إلى الجهوية، فماذا لو أضيفت إلى هذا الواقع معطيات واقعية أخرى، أولها الاحتلال وآلياته المدمرة، ثم الوضع الاجتماعي- الاقتصادي في علاقته بالجهات المانحة، وبتنسيق مع شروط الاحتلال، وكل هذا في حاضنة إقليمية أقل ما توصف به أنها متهالكة؟
ما يقلق المثقفين الفلسطينيين سيُفهم، في بعض جوانبه، بما يواجهه المثقف الغربي، أي في سياق أزمة الـ «يوتوبيا». المفكر الغربي يرى الآن أن الـ «يوتوبيا» هي القناع الذي تتخفى وراءه الـ «ديستوبيا» بما هي وصف لاغتراب المثقف في حالة سياسية لا يجد نفسه مؤثراً فيها، في ظل هيمنة مطلقة للدولة، شموليةً كانت أو فردية، فالمثقف الأوروبي يعاني عزلة عن السياسة، وانهياراً تدريجياً لمفهوم السيرورة الديموقراطية وعلاقة البرلمانات بالدولة التي ابتعدت من الرأي العام وممثليه، وانصاعت لخدمة متطلبات الليبرالية الاقتصادية المعولمة وحكومتها الخفيّة حيث لا مرجعية تشريعية.
فلسطينياً، مثقف السلطة يُدرج في تصنيف التكنوقراط، وهذا ليس مأخذاً إلّا في كونه مقيداً بقيود الدولة، مثل أي تكنوقراط في العالم. في الحالة الفلسطينية هو أيضاً مكبلٌ بالقيود التي يفرضها الاحتلال على عمل السلطة، وبمخرجات التفاوض. لا ننسى أن إنشاء السلطة استدعى دمج العديد من المثقفين في دوائرها وأجهزتها، خصوصاً السلك الديبلوماسي ولجان المفاوضات والإعلام. المثقفُ المستقل، وجد نفسه أمام إغواءات الإغداق المالي من المؤسسات الدولية الداعمة للسلطة، خصوصاً المنظمات غير الحكومية. وبسبب ذلك، انتشرت بالمئات مراكز ثقافية ملتزمة شروط الجهات الداعمة، التي يعلم الجميع أنها تُنسق مع الاحتلال الإسرائيلي. وهذه المراكز لم تنجح في تأسيس حراك ثقافي وازن، رغم التماعات إبداعية فردية هنا أو هناك. ومنذ عام تقريباً، تعاني هذه المراكز شحّ الموارد، وكثيرٌ منها علّق أعماله.
لم يعد للمثقف الطليعي ذلك الدور الفكري المباشر والمؤثر، وانتهت صوره إلى الذكرى والتعظيم، من غسان كنفاني، إلى كمال ناصر ومعين بسيسو وأبو سلمى وماجد أبو شرار وناجي العلي ومحمود درويش وآخرين... ولكن في غلبة «السياسي» على الثقافي، بدءاً من الخروج من بيروت، وإقامة السلطة الوطنية، وتحوُّل السياسة إلى اتصالات دولية وإقليمية، تُطبخ في أروقة المخابرات والأمن وتُمرر بالهواتف والوفود، أصبح رجل الأمن في كامل الصورة، وصار المثقفُ فائضاً عن الحاجة، لا يملك سوى الأمل في واقع ينفيه.
سيرة مؤلمة وتغريبة محزنة للمثقف الذي عاش في زمن الثورة أحلام «يوتوبيا» لم تتحقق، ويعيش الآن وقائع «ديستوبيا» لا ترفق به ولا بغيره.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع