نحن لا نعرف شيئا عما تقوم به مؤسسات الدولة المصرية لتنقذ لغتنا العربية الفصحى من هذه الأوضاع البائسة التى تتخبط فيها، وتضمن لها حياتها، وتنمى قدراتها، وتمكن منها جميع المصريين وتتيح لكل منهم نصيبه فيها، وتزودها بما تستطيع به أن تلبى حاجاتنا المختلفة، وأن تستوعب حضارة العصور الحديثة وتشارك فيها مشاركة ايجابية تتجاوز النقل والترجمة والتقليد إلى المراجعة والكشف والاضافة كما يليق بأمة سبقت كثيرا من الأمم فى ماضيها، وتخلفت عن كثير من الأمم فى حاضرها ــ أقول نحن لا نعرف شيئا عما تقوم به الوزارات والمؤسسات المختلفة المكلفة عندنا بأداء ما يجب فى حماية الفصحى وتنميتها وترقيتها ونشرها. وهو واجب لا يختلف فى شيء عن المحافظة على أرض الوطن وحماية حدوده. لأن اللغة شرط أول لوجود الجماعة الوطنية إذا أردنا أن يكون لنا وجود فاعل نلبى به حاجاتنا، وننال حقوقنا، ونتواصل مع الآخرين ونتحاور معهم بكفاءة.
نعم. اللغة شرط وجود. والمرء بأصغريه قلبه ولسانه. والقلب واللسان، أى التفكير والتعبير، يجتمعان معا فى اللغة. فنحن نفكر باللغة، ونعبر باللغة. حين نتذكر شيئا أو نتخيل شيئا نستحضره باسمه قبل أن ننطقه وربما عرفنا الأشياء بأسمائها وحدها دون أن نعرفها بصورها. كما نفعل مع المعانى المجردة التى لا تتجسد ولا تتشخص.
وأنا أعرف بالطبع أن بعض الناس يولدون بغير قدرة على الكلام، وأن الأميين يعيشون محرومين من القدرة على القراءة والكتابة، وأن هؤلاء وهؤلاء يستعينون بالاشارة أو يكتفون باللغة البسيطة التى يتلقونها ممن يعاشرونهم ويتعاملون معهم ويتواصلون بها دون حاجة لقراءة أو كتابة. فضلا عن أن الذين يعرفون القراءة والكتابة تتفاوت حظوظهم من معرفة اللغة المثقفة. ومنهم من لا يقرأ ولا يكتب رغم ما حصل عليه فى مؤسسات التعليم ومراحله المختلفة. ومع هذا فهؤلاء جميعا موجودون.
نعم. هؤلاء موجودون ضمن الحدود المتاحة لهم، محرومون من تحقيق ذاتهم على النحو المتاح لغيرهم. لأن الوجود درجات ومستويات. وأن يوجد المرء ليأكل ويشرب وينام ويصحو غير أن يوجد ليفكر ويعبر عن افكاره وينظر فى الحاضر ويحلم بالمستقبل ويتحاور مع الآخرين ويستفيد بتجاربهم. هذا الوجود الحى الفعال لا يتحقق إلا بثقافة لا يمكن أن نحصلها إلا بلغة قادرة على استيعابه والاستجابة له. وإذن فاللغة شرط وجود.
هذه الحقيقة لا تحتمل الجدل ولا تحتاج لبرهان. وقد أدركناها نحن المصريين قبل أن يدركها غيرنا يوم عرفنا كيف ندون افكارنا ونحفظها بالكتابة فانتقلنا من العصر الذى كان فيه الإنسان يصارع الطبيعة ليسيطر عليها إلى العصر الذى أصبح فيه يصارع نفسه ليسيطر عليها بتلك القوى الباطنية التى ظهرت أول ما ظهرت فى مصر، وهى الضمير.
الضمير تجارب تراكمت حتى صارت خبرة. والخبرات تراكمت حتى صارت وعيا. والوعى تحول فى النهاية إلى أخلاق وقيم تبنيناها وتبناها البشر جميعا بعد أن عرفوا جدواها. وقد تحقق هذا للبشر خلال الآلاف الخمسة من السنين التى اهتدوا فيها للكتابة. فإذا انتقلنا من حضارتنا القديمة إلى الحضارة العربية الاسلامية فسوف نرى فى البداية أن العرب يرون أن الإنسان يتحقق قبل كل شيء باللغة التى يستطيع بها أن يتواصل مع غيره، وأن لغتهم بالذات هى القادرة على تحقيق هذا التواصل فالانسان فى نظرهم هو الناطق بالعربية وغيره أقرب إلى الحيوان الأعجم. والعرب القدماء فى هذه النظرة يشبهون اليونانيين الذين اعتبروا أنفسهم متحضرين هم وحدهم لأنهم ينطقون باليونانية، ونحن نرى أن اللغة متمثلة فى القرآن الكريم هى المعجزة الكبري فى حضارة العرب المسلمين، ونرى كيف يحتفل القرآن باللغة، بحروفها التى تبدأ بها بعض السور ويرى البعض أنها أسماء لله، وبالمفردات الدالة على اللغة المنطوقة والمكتوبة. « ن. والقلم وما يسطرون»، و «اقرأ»، و «وكل انسان ألزمناه طائره فى عنقه، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. اقرأ كتابك» ومن الطبيعى أن تحتل اللغة هذا المكان فى التراث العربى القديم والحديث. ونحن نعرف ما قاله الشاعر الجاهلى زهير بن أبى سلمى فى معلقته عن اللغة:
وكائنْ ترى من صامتٍ لك معجِبٍ
زيادته أو نقصه فى التكلُّمِ
لسانُ الفتى نصفٌ، ونصفٌ فؤادهُ
فلم يبق إلا صورةُ اللحم والدم
وهناك أبيات أخرى لشاعر لا أذكر اسمه الآن يشكو فيها اغترابه فى زمنه ويتألم لما أصاب اللغة الفصحى فى هذا الزمن من فساد فلم يعد يجد فيه من يفهمون عنه ويقدرون موهبته، وهو فى هذا لا يدرى أين يروح وأين يقيم:
وبضاعتى عربية، فكأنني
أَلقى بأبهى ما صنعت الروما
فلمن أقول؟ وما أقول؟ وأين بي
فأروح؟ أو لا أين بى فأقيما؟!
لكأن هذا الشاعر المسكين يعيش فى أيامنا. وكأن عبدالرحمن بن خلدون يجيب عن أسئلته حين قال كلمته التى رأى فيها أن حال اللغة من حال أهلها فلننظر فى لغتنا. لنسمع ما يقال، ولنقرأ ما يكتب لنعرف فى أى حال نحن. يقول ابن خلدون « إن غلبة اللغة بغلبة أهلها. وإن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم»! وسوف أختم حديث اليوم بهذه المقتطفات من مقال بديع كتبه خطيب الثورة العرابية عبدالله النديم ونشره فى صحيفته «التنكيت والتبكيت» منذ ما يقرب من مائة وعشرين عاما تحت عنوان «إضاعة اللغة تسليم للذات. أيها الناطقون بالضاد». يقول:
«.... اللغة سر الحياة، والحد الفارق بين الإنسان والبهيم. بها يترجم اللسان خواطر القلب ويجلو بنات الأفكار. وبها يعشق المرء وإن كان دميم المنظر.. وهى التى جذبت بها قلب أمك واستعطفت جانب أبيك وتملكت فكر أخيك واستملت صاحبك وألفت جارك وتعارفت مع مواطنك وقابلت بها نزيلك. فهى أنت إن كنت لا تدرى من أنت. وهى وطنك إن لم تعرف ما الوطن.»
وللحديث بقية..
نقلا عن الاهرام القاهرية