بقلم : بكر عويضة
ربما ليس من جديد ينبئ به عنوان ما سوف أدوِّن أدناه. حسناً، ما الفائدة إذن؟ أتُضيّع وقت الناس كأنما ليس لديهم ما يشغلهم؟ كلا، أرجو ألا أفعل كما الذين، وهمْ كثر، تتباين ثقافاتهم، تتعدد مجتمعاتهم، وتتلاقى مراميهم، ينصحون غيرهم بكل ما هو جميل، ويحلّون لأنفسهم أي بشع، يقولون ما لا يفعلون، والعكس يصح عندهم، فيحلو لهم أن يفعلوا من القبائح وراء الجدران نقيض ما قالوا أمام الخَلق، والأبشع أن البعض منهم يمارس نقائض كهذه وقد اعتلى منبر جامع، أو كنيسة، أو كنيس، باسم الخالق عزّ وجل. ضمن السياق ذاته، تلفت النظر مفارقة أن هذا النوع من تجّار الفضيلة، أو الورع، أو السياسة، يعرفون حق المعرفة، أن مولى العباد أجمعين، يسمع ما يبدون، ويطّلع على ما يخفون، سرهم في الليل مكشوف لنوره، وجهرهم بالنهار مسموع في سماواته. مع ذلك، ترى بعضهم يستمرئ خداع نفسه، ويجترئ حتى في أن يخادع ربّ الناس. مثلاً، يرفع أحدهم صوته من منبر مسجد ما، فيهدر بالعباد أمامه، مُلوحاً أصبع التشهد يميناً تارة، وشمالاً مرةً، يهدد الجالسين بصمت أمامه، محظور عليهم مقاطعته، إذ سوف يُرمى المقاطع باللغو، فيما هو ليس يخشى أن يعُدّ كل صلاة فرض لم تؤدَّ جماعةً، وفي المسجد تحديداً، بلا سبب حال دون الذهاب للجامع، هي «صلاة زائفة». سبحان الله، كأنما ذاك النوع من خطباء المساجد، إذ يزكي نفسه على غيره من الناس المؤدين فروضهم في بيوتهم، قد ضمن لنفسه أن صلاته سوف ترتفع فوق الرأس منه، ثم تجد بعضهم يردد قول النبي الأمين، صلوات الله وسلامه عليه وآله أجمعين: «المسلم مَن سلِم المسلمون مِن لسانه ويده»، غير مدرك أنه آذى بلسانه مسلمين ومسلمات استمعوا له، مضطرين، إذ طفق يشكك في تقبّل الخالق لصلواتهم في بيوتهم. سألني صديق كان أحد السامعين: هل يمكن القول إن هذا الخطاب يُعد من أسباب نشر التطرف بين الناس؟
أجبت: في تقديري، وقد يجانبني الصواب، الإجابة هي: نعم. السبب أن مثل هذا التخشّب في لغة التخاطب بين أشخاص أتيحت لهم فرص النهل من ينابيع النصوص، وتحملوا عناء جهد الدرس حتى غادروا الجامعات والمعاهد، فحُمِّلوا مسؤولية التبليغ المقترن بيسير الشرح وبساطة التفسير، وبين جمهور يحرص على إعمار المساجد ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، هذا الأسلوب المتشدد لن يفيد في إبلاغ المُخاطَب ما أراد المُخاطِب من حُسن المقاصد، بل الأرجح أنه سيثمر العكس، وعلى وجه الخصوص، بين شرائح الجيل الشاب، ولن أستغرب، وربما أكون على خطأ، لو أن تخشّباً في التخاطب كهذا نفّر البعض بدل أن يشدهم أكثر. بكل تأكيد، من واجب الأئمة حض العباد على إعمار المساجد، وعدم التخلف عن أداء الفروض جماعةً في أوقاتها المعلومة، إنما هناك فرق بيِّنٌ كما بيان الكتاب المبين ذاته، بين دعوة الحكمة والموعظة الحسنة، ولغة تبذر بعض شك في صحة تعبّد المرء داخل بيته.
في سياق تأثير سوء استخدام اللغة ذاته، يمكن القول كذلك إن الفرق كبير بين رد فعل غاضب إزاء كلام سياسي غير متسق مع مرحلة ما، وجموح الغضب نحو صياح يشعل أوار التطرف بدل الجنوح نحو التهدئة. مثال ذلك ما حصل من قبل بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، رداً على ما قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الأسبوع الماضي، في شأن يهود أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. لم يكن الأمر يتطلب كل تلك «الهستيريا» من جانب نتنياهو، حتى يسارع إلى رمي محمود عباس بالتهمة الجاهزة: «العداء للسامية»، مع أن نتنياهو ذاته يُفترض أنه أدرى أن الرجل (أبو مازن) كاد يُقتل إلى جانب القيادي عصام السرطاوي في لشبونة (10/ 4/ 1983) لمجرد أنهما معاً من أوائل الداعين إلى التحاور مع الطرف الآخر، ولو بدءاً بفتح باب الحوار مع قوى اليسار الإسرائيلي. من جانبه، أحسن الرئيس الفلسطيني صنعاً إذ سارع إلى اتخاذ الموقف الصحيح عندما بادر فأوضح، حتى لو عُدّ ما قال من قبيل «الاعتذار»، فما في ذلك ما يضير الرجل، يكفيه أن عجل برد أوقف «هستيريا» أريد منها الإضرار بمجمل الموقف الفلسطيني من مبدأ السلام ذاته. هكذا هو تطرف الكلام، يمكن له، بأسرع مما يتوقع كثيرون، الإسهام في نشر تطرف أخطر. فهل أتيت بجديد؟ آمل ذلك.
نقلا عن الشرق الآوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع