توقيت القاهرة المحلي 06:45:06 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أدب الحزن على أديب

  مصر اليوم -

أدب الحزن على أديب

بقلم:بكر عويضة

نعم، للحزن أدب وإجلال، كما تعرفون، أعمق من نحيب البكاء، أو عويل لطم الخدود، سواء صَدَق الدمع، أو كان محض تأثر عاطفي، وربما جاملَ فحسب. أتصوّر، من جانبي، أن جلال الحزن إنما يدرك قلب المحزون حين يتجلى نور الإيمان بقول الخالق إن الموت حق. أليست هكذا هي قصة المخلوق في كَبَد، منذ بدء الخلق؟ بلى. أكتب بعد أسبوع على رحيل أديب أبو علوان، ولن أستغرب إذا تساءل البعض عمّن هو أديب، لأن الراحل لم يُعرَف بأنه مثير صخب، أو صاحب ضجيج في حلقات صحافة لندن العربية، ولا في مجالسها المنعقدة خارج مقارها، أو ضمن أجواء نميمتها عندما تسري همساً قبل أن تحلق في فضاءاتها كافةً، كأنها حقائق غير مُتنازع عليها. تلك نميمة، كما هو معروف، من طبائع أهل الصحافة، والإعلام، وربما مجال الإبداع عموماً، وليست حكراً على العرب وحدهم. كلا، ضمن سياق كهذا، أديب أبو علوان، لم يكن أحدنا. نعم، أشمل ذاتي أيضاً، كي أصْدق القول مع نفسي أولاً، فأعترف أنني لم أرقَ إلى مثل مستوى إنكار الذات الذي لازم منهج عمل أديب، ليس الصحافي فحسب، بل النضالي كذلك، ولعل الأصح هو القول إن الثاني كان سابقاً على الأول، إذ لو أن تربية أديب النضالية، في حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح»، لم تنجح في زرع مبدأ نكران المصالح الذاتية، لأجل مصلحة الوطن، لما ساد النهج ذاته في تعامل أديب مع زملاء كثر له، وزميلات، في أكثر من موقع صحافي مسؤول تسلمه، أو منصب إداري أداره بنجاح، بضع سنوات.
هل يتخلى الفلسطيني الحامل جواز سفر المحتل الإسرائيلي عن الأصل، الذي منه أتى، وإليه سوف يرجع، ذات يوم؟ كلا، هذا أديب أبو علوان، هو الشاهد الحي على ذلك في حيفا، إذ يخوض غمار النضال الفلسطيني في عز الشباب، منذ منتصف ستينات القرن الماضي، مع بدايات انطلاق حركة «فتح» فجر فاتح يناير (كانون الثاني) 1965. ثم ها هو نفسه، أديب ذاته، شاهد مُتوفى في صقيع غربته اللندنية، يبقى فلسطينياً حتى الرمق الأخير. تعجز قضبان مرض يقطّع لفائف الذاكرة إربْاً عن تفتيت ذاكرته الفلسطينية، تفشل في سحق ذكرى ليل الأسر وراء القضبان في سجون إسرائيل. يبتسم أديب إذ تحدق عيناه فيما تخترق بصري، يقول بوضوح يمكنني فهمه جيداً، لم يكن يُهمْهِم، أو يهذي؛ ها هم، آتون ليأخذوني، لن أخافهم، كان بينهم عاقل واحد، يكرر لهم القول إنني لن أستسلم، فليوقفوا التعذيب. يصمت أديب قليلاً، يبتسم مجدداً، ثم يضحك ملء صدره.
بعد انقضاء فترة الأسر في السجن الإسرائيلي، حملت الأقدار أديب أبو علوان إلى لندن، حيث شاءت أقدار احتراب اللبنانيين فيما بينهم، وحروب الآخرين على أرضهم، ومن ضمنهم قادة فصائل فلسطينية، أن تغدو عاصمة بريطانيا مقر صحافة طارئاً للطيور المهاجرة من بيروت تحديداً، غير أن الطارئ سوف يصبح هو المرفأ الدائم، وعلى أكثر من رصيف ستبدو لندن، بعد حين، مجمّع موانئ ترسو فيه صحف ومجلات عربية عدة، بينها المهاجر، ومنها الناشئ فيها أساساً. بين الشريحة الأولى، كانت مجلة «الدستور» التي التحق أديب أبو علوان بأسرتها يوم كان ناشرها ورئيس تحريرها الصحافي اللبناني المعروف الأستاذ علي بلوط، ومنها انتقل أديب إلى مطبوعات الشركة السعودية للأبحاث والتسويق، بدءاً بمجلة «المجلة»، ثم مجلة «سيدتي»، إلى أن تسلّم موقع مدير الإنتاج في المؤسسة ككل، حيث أمضى بضع سنوات مسؤولاً عن انتظام مواعيد طبع مطبوعات المؤسسة كافةً.
حقاً، لقد عاش أديب أبو علوان، مناضلاً بصمت، بلا زعيق واستعراض، وأعطى في الحقل الصحافي بأدب رافق دائماً ابتسامة الود للزملاء والزميلات، متجنباً أي بغض لأحد. تجمعني والراحل أديب ذكريات عدة تجمع معنا آخرين أيضاً. بالنسبة لي، أديب أبو علوان هو شاهد آخر يترجل قبلي، فإذا بي أمام مأزق الحيرة من جديد؛ ماذا تقول، وعمّ تصمت؟ من أدب الحزن على رحيلك أديب أن أصمت الآن، هذه اللحظة، وأحاول أن أشارك السيدة رحاب، رفيقة دربك، وكلاً من علي وسامر، وأحفادك، حزنهم الأكبر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أدب الحزن على أديب أدب الحزن على أديب



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان
  مصر اليوم - مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 00:03 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

نيقولا معوض بطل كليب تركي دويتو مع إيلين ييليز
  مصر اليوم - نيقولا معوض بطل كليب تركي دويتو مع إيلين ييليز

GMT 09:43 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

GMT 05:12 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

تصريح عاجل من بلينكن بشأن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

GMT 16:22 2018 الثلاثاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

جماهير تطلب فتح المدرج الشرقي في مواجهة بوركينا

GMT 11:58 2024 الخميس ,06 حزيران / يونيو

أفضل فساتين الخطوبة للمحجبات

GMT 00:10 2019 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزال بقوة 5 درجات يضرب ألاسكا الأميركية

GMT 08:42 2019 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

وزير شئون «النواب» يناقش تطورات مجال حقوق الانسان في مصر

GMT 12:54 2019 الأربعاء ,04 أيلول / سبتمبر

الفنانة يارا تفاجئ جمهورها علي تطبيق "سناب شات

GMT 03:31 2019 السبت ,29 حزيران / يونيو

فيل يبتكر طريقة ذكية ليتناول طعامه من فوق شجرة

GMT 13:03 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

فولكس فاجن تكشف عن أسعار أيقونتها Passat موديل 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon