بقلم: بكر عويضة
أتخيّل كيف أن أي عاقل يطالع العنوان أعلاه، سوف يصيح مغاضباً، أو ساخراً، وربما ذارفاً الدمع من شدة الضحك: ما هذا الجنون، وكيف تُجيز صحيفة بمستوى «الشرق الأوسط»، نشر هكذا هراء فيه تجاوز صارخ ليس فقط على التاريخ، ما مضى منه وواقع حاضره، ثم الآتي منه، بل هو اجتراء على كل ما يربط بين العقل والمنطق، إذ أنّى لعاقل أن يجرّد سوريا والسوريين من لغة هي الأم بين لغات عدة نطق بها السوريون القدماء عبر كل العصور؟ تلك صيحة حق، بلا شك، وهي ذاتها التي سمعت صداها يَصْفُق بين الضلوع عندما أتاني الصوت الصادم بذلك الزعم. سارعتُ أتأكد أنني لم أخطئ السمع، فسألت سيدة كنتُ أعودها في مستشفاها، من قال لكِ هذا؟ أجابت: قالته جارتي، التي بدا لكَ أثناء زيارتك لي مساء أمس أنها تبدو عربية الملامح، فلّما غادرتَ بعد انتهاء الزيارة، أتت فسألتني بدورها هل أنك عربي، فأجبتها بنعم، يبدو أنكم العرب تتعرفون على بعضكم من سمات وجوهكم، ثم أبلغتني أنها سورية متزوجة من شاب إنجليزي، ولديهما طفلان، وأنهم في سوريا، وحدها بين دول الشرق الأوسط كلها، لا يتكلمون لغتكم العربية. سألت: أين هي؟ قالت: إنها عادت إلى بيتها بعد ظهر اليوم.
مبتسماً، قلت: غير معقول ما تقولين يا جارتي العزيزة، لعلك أخطأتِ السمع. انتفضت ليندا غاضبة تدفع عن نفسها أي شبهة تشكيك بحواسها، وأصرّت أن ذلك بالضبط ما قالته الأم السورية الشابة، لكنها تذكّرت فجأة أن أم أولادي، من سوريا أيضاً، فسألتني: لكن، ألم تكن زوجتك الراحلة تتكلم العربية؟ أجبت: بلى، بالتأكيد. تمتمت ليندا وقد بدت عليها الحيرة: «ذاتس إكستريملي سترينج». بمعنى أنه غريب جداً. في الطريق إلى البيت، وجدتني، إذ أعيد تشغيل شريط الحوار في ذهني، أترك هامش الشك مفتوحاً، لعدم توفر الدليل الحاسم، وخطر لي احتمال أن تلك الشابة السورية كانت تشرح لجارتها الإنجليزية شيئاً من تراث سوريا الحضاري، ومنه تميّزها بين دول الإقليم بازدهار اللغة الآرامية فيها زمناً امتد قروناً، فالآرامية بلهجة الجليل الفلسطيني تحديداً، لغة تحدث بها المسيح عيسى بن مريم، عليهما السلام، وكذلك حواريوه، ومن ثم لعل ليندا سمعت الكلمة «آرابِك» بدل أن تسمعها «آرامِك»، فيما كانت جارتها السورية تبدي الأسف على فقدان تلك اللغة، لأن السوريين لم يعودوا يتحدثون بها.
جانباً، وضعت غموض ما جرى من الحديث بين نزيلتي المستشفى، الإنجليزية والسورية، ثم عدت أتأمل في سؤال أكثر أهمية: أهو غريبٌ حقاً، إذا نظر المرء إلى ما جرى من أحداث على الأرض السورية طوال الثماني سنوات الماضية، ولا يزال يجري، ثم قال بشديد الحزن إن لغة الفعل المسلح السائدة في سوريا اليوم، ليست عربية إطلاقاً، بل لقد اجتمعت فوق مساحات شاسعة من أرض بلاد الشام لغات ينطق بها إرهابيون تفرّق بينهم جنسيات البلاد الأصل، التي إليها ينتمون، وتلك التي منها يستمدون الدعم، إنما تراهم يلتقون على هدف واضح، تمزيق هذا البلد، وتقطيع أوصال شعبه عربي اللغة والتراث والانتماء؟ ثم أين المبالغة إذا قيل إن اللغة السياسية المسيطرة على قرار أهل الحكم في «قصر المهاجرين»، هي لغة روسيا القيصر بوتين، أولاً، تليها فارسية إيران، ذات الطموح التوسعي غير الخافي على كل ذي بصر وبصيرة؟
مع ذلك، سوف يظل هناك سؤال مهم سيبقى معلقاً في عنق كل من أسهم في صنع ما وقع من مآسٍ في سوريا ولأهلها: لماذا أُريد، أساساً، للفراغ أن يوجد في سوريا، كي يُملأ بجماعات إرهاب من جهة، وبنفوذ طهران، أولاً، وموسكو لاحقاً، من جهة ثانية؟ نعم، الحكم السوري يتحمل النصيب الأهم من المسؤولية، يكفي أنه الذي بدأ بالعنف المسلح في التعامل مع مطلب الناس السِلمي. إنما ماذا عن الآخرين، أي تبرير سوف يعطي الذين فتحوا الأبواب أمام الآتين بسود الرايات، وغيرهم، إلى خضر الروابي السورية، والذين أمدوا هؤلاء وأولئك بالمدد، رجالاً وسلاحاً ومالاً؟ نعم، موت اللغة الآرامية في مهدها السوري محزن، ولو من منطلق ثقافي بحت، كما أفترض أن الشابة السورية قالت لجارتها الإنجليزية في المستشفى، لكن أين ذلك من هول ما جرى على أرض سوريا ولشعبها، سواء بأيدي حكامها، أو الذين أتوا لإطاحتهم بالقوة؟