بقلم : بكر عويضة
سواء من قِبل إيران، أو من جانب غيرها، استهداف أمن المملكة العربية السعودية، واستقرارها، لن يتوقف، ليس بسبب ثروتها النفطية فحسب، أو ما في جوف أرضها من ثروات معدنية، أو لما تتبوأ، كدولة، من مرموق المكانة، وما يتسم به أهلها من كريم الصفات، وإنما قبل ما سبق كله، وأيضاً بعده، سوف يظل هناك دائماً أكثر من طرف يريد النَيل من أرض «البلد الأمين»، مُستهدفاً إياها من منطلق النِّقمة أنْ أنعم ربُّ الفلقِ عليها فكانت مهبطاً للتنزيل المُبين على خاتم النبيين. هل من عجب إذا ضرب شر الحسد على تلك النِعمة تحديداً، نفوس أقوام بمشارق الأرض، أو مغاربها؟ كلا، على الإطلاق. إنما يثير الاستغراب أن يستعصي على عربٍ ومسلمين، يفترض المرء أن فيهم من رجاحة العقل، وتراكم حكمة السنين، ما يؤهلهم لتبيّن الخيط الأبيض من الأسود في مسائل ليست تحتمل المكان الوسط، أو اللجوء إلى الموقف رمادي اللون في أمور تتطلب الحسم البيِّن. حقاً، ليس مفهوماً أن يقف عربي إلى جانب أي موقف إيراني ساطع الوضوح في عدوانيته ضد أي بلد عربي، وليس فقط السعودية، فكيف إذا انتقل الموقف العدواني من إطار القول إلى حيّز الفعل، كما حصل في الهجمات التي تعرضت لها منشآت «أرامكو»، كيف يمكن تبرير أي اصطفاف عربي إلى جانب منصات تدير حرب إيران الدعائية في استهداف السعودية، أو غيرها من الدول العربية؟
ليس من تبرير يستند إلى منطق. ما من تفسير لهكذا مواقف سوى الانسياق وراء هوى سياسي ينسجم مع مصالح ذاتية، سواء كانت في نطاق المستوى الفردي، أو حيز العمل الحزبي. يلفت النظر، في هذا السياق، أن ساسة وإعلاميين عرباً، حسموا أمرهم في الانحياز التام إلى جانب طهران، منذ استولى الخميني على إيران، لم يترددوا في اتخاذ موقف عدائي من الرئيس العراقي صدام حسين عندما قرر مواجهة إصرار حكم «الآيات» على اعتماد نهج «تصدير الثورة»، وهي المواجهة التي تطورت إلى حرب مدمرة للبلدينٍ. أولئك الساسة والإعلاميون العرب أنفسهم، ما ترددوا، أيضاً، في أن يستديروا بمواقفهم فيقفوا إلى جانب صدام حسين في كارثة غزو الكويت. لماذا؟ مجرد مصادفة؟ ليست هناك مصادفات، إنما هي النيّات المبيّتة للوقوف الدائم إلى جانب أي تفتيت للعالم العربي، رغم الزعيق المستديم بشعارات تزعم، كذباً، أنها تنشد وحدة الأقطار العربية، ثم تأتي الممارسة إسناداً لكل ما من شأنه إهدار ثروات العرب في حروب تخلّف وراءها كل أسباب إبقاء الشعوب الحربية مقيدة بسلاسل التخلّف، من دمار، وخراب، وفقر، ومرض. حقاً، بصرف النظر عن الموقف من الاعتداء على منشآت «أرامكو»، الواضح تماماً أنه مدعوم من قبل إيران، ألم تحن، بعد، لبعض العرب، ساسة وإعلاميين، يقظة ضمير يواجهون خلالها لحظة حق تقول إن الموقف الصحيح هو وقوف العربي مع الشقيق العربي؟
في لندن، وغيرها من العواصم بمختلف أنحاء العالم، شارك السعوديين احتفالَهم بمناسبة اليوم الوطني السعودي السادس والثمانين، سياسيون واقتصاديون وإعلاميون تختلف توجهاتهم، وتتباين مواقعهم، إنما يجمعهم موقف تقدير ما تحقق من تطور في مسيرة الدولة السعودية، واحترام تعامل قيادتها بكثير من التروي والحكمة مع الأزمات، حتى عندما تأتي بحجم ما تعرضت له منشآت «أرامكو» من هجمات. كثيرون استعجلوا الرد السعودي، والأرجح أن هناك من قامر بالمراهنة على ردٍ انفعالي يوقع السعودية في فخ الحسابات الإيرانية. التاريخ سوف يوثق أن التعقل السعودي أفشل ذلك الخبث الإيراني. تجارب الواقع العملي تثبت، دائماً، أن تحكيم العقل في ملمات الأحداث، يوصل إلى القرار الصائب.
يبقى أن أختم بإشارة إلى أنني كنت بصدد استكمال الحديث عن صفحات من تجربتي الصحافية في ليبيا، خلال خواتيم عهد الملك محمد إدريس السنوسي، وبدايات زمن معمر القذافي، الذي، بالمناسبة، لم تنجُ السعودية من أذاه، بل تنكر لموقفها في مساعدته على الخروج من ورطة «لوكربي»، ذلك دور أداه آنذاك بصبر وحكمة الأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز يوم كان سفير بلاده في الولايات المتحدة. تدور الأيام، وتمر الأزمان، ويُذكِّر القول الحق من يهمه أن يَتذكّر: «فَأَمَا الزَبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَا مَا يَنفَعُ النَاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ».