بقلم: بكر عويضة
بدءاً، المقال لا يتناول فيلم «الجوكر» من منظور نقد سينمائي. ما هذا مجال تخصصي. إنما اخترت العنوان متأثراً بما قرأت عن الفيلم المثير للجدل الكثير، حتى قبل بدء العرض اعتباراً من السبت الماضي. بل يبدو أن بعض مشاهد الفيلم استفزت كثيرين، ما استدعى استنفار الأمن الأميركي. المضمون هنا هو عن أكثر من «جوكر» حالم تراوده أحلام تفتيت العالم العربي، حتى يقتات على فُتات ما تبقى من ديار العرب، إذ هي أشتات، وقد تكاثرت عليها أطماع الأمم من كل صوب ومن غير حدب.
قبل أي استطراد، ربما من المفيد الاستعانة بالمعجم، بقصد الفهم الدقيق لمعنى الكلمة، ولو من باب التذكير، لمن سبق لهم ولهن العلم. وفق «المورد»، قاموس العلامة منير البعلبكي، فإن تعريب «جوكر» هو التالي: «(أ) 1 - الكثير المِزاح أو التنكيت، 2 - فتى، شخص. (ب) 1 - الجوكر في ورق اللعب. 2 - جملة غامضة تُقحم في وثيقة تشريعية بُغية جعلها غير فعالة. 3 - جملة أو كلمة مُضلِّلة أو مُساء فهمها، في وثيقة ما، تبطل هذه الوثيقة أو تحرّفها تحريفاً كبيراً. 4 - شيء يُحتَفظ به لتحقيق هدف أو اجتناب مأزق. 5 - عامل غير مُتوّقع يحبط أو يعطل فائدة ظاهرية». شكراً للعلامة الكبير، ثم الشكر موصول لأسرة «المورد»، القاموس النافع للناس كافة. لك، بعد ذلك، إمعان النظر بكم من المعاني تحمل كلمة «جوكر»، ثم تأخذ منها، إن شئت، ما يعينك على فهم أدوار ما ابتُلي به العرب من «جواكر» زمنهم المعاصر.
من جهتي، سوف أغض النظر عن المعنى المتداول، أو قل المعروف بين أكثر الناس، أي المزّاح أو المنكِّت، إذ بين معاني «الجوكر» ما هو أخطر، ولم يزل العرب يعانون آثاره منذ عقود مضت، إنه المعنى القائل إن «الجوكر» هو: «جملة أو كلمة مُضلِّلة أو مُساء فهمها، في وثيقة ما، تبطل هذه الوثيقة أو تحرّفها تحريفاً كبيراً». أليس من الجائز، في سياق هذا المعنى، تذكّر تضمين النص الإنجليزي للقرار الدولي رقم 242، الصادر في 22-11-1967، إلزام إسرائيل بالانسحاب من «أراضٍ»، وليس من «الأراضي»، العربية المحتلة؟ قيل إن لورد كارادون، مندوب بريطانيا في الأمم المتحدة آنذاك، هو سيد ذلك التلاعب، ما يعني أنه كان يؤدي مهمة الجوكر، الذي سوف يخدم غموض القرار لصالح حليف بريطانيا الإسرائيلي.
لكن ذلك زمن يبدو بعيداً الآن، رغم أن الآثار لم تزل محسوسة، كأنما الأرض زُلزلت بها نهار أمس. أما مِن مثل أقرب زمنياً؟ بلى. الأحد الماضي مرت الذكرى السادسة والأربعون لانتصار العرب، بقيادة مصر، في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. تُرى، أي «جوكر» يستحق أن يُستحضر، وهم كثر، للتحقق من دوره في إزهاق روح ذلك النصر الذي أفرح العرب أجمعين؟ قبل القفز إلى أي استنتاج، أسارع للقول إنني لست أعني محمد أنور السادات، رئيس مصر حينذاك وقائد العبور، الذي يُرمى بتهمة إجهاض حرب حررت معظم الأرض المصرية، وأعادت الاعتبار لجيش الكنانة، لأنه أبرم معاهدة كامب ديفيد. صحيح أن ثغرة الدفرسوار أعادت خلط الأوراق عسكرياً، لكن الوقائع تقول إن معمر القذافي كان أول من حاول، عربياً، خنق روح عبور خط بارليف، إذ عبر ربط إذاعة مصر بالإذاعة الليبية، راح يزعق مخاطباً جنود مصر، ثاني أيام المعارك، قائلاً إنها حرب للتحريك وليست للتحرير. حتى لو صح ذلك القول، زمنذاك، ليس من خطأ، أساساً، خوض حرب بغرض تحريك وضع جامد، إنما الخطيئة هي تعمّد القذافي إضعاف الروح المعنوية لجنود مصر، ومعهم كل العرب.
ثم، نقترب زمنياً أكثر، فنرى مصر المنتصرة في أكتوبر 1973 تواجه أكثر من «جوكر» يريد النيل من استقرار المصريين وأمنهم. لماذا تعنُّت إثيوبيا فيما يتعلق بالتفاوض حول اقتسام مياه نهر النيل؟ ولماذا لا يفِت عضد داعمي التسلل عبر الحدود من شرق ليبيا بقصد التخريب في مصر؟ هل هذه مجرد صدف؟ بالتأكيد كلا. ثم ماذا عن «جواكر» خبث ليست تمل من خلط أوراق اللعب في ملاعب العراق وسوريا ولبنان، وصولاً إلى فلسطين والسودان؟ يبقى أن الأهم، في ضوء ما سبق، هو السؤال: ألم يأن للعرب أن يفيقوا من أوهام طال أمد خداعها لهم، فيما «جواكر» الأغراب تعيث في ديارهم فساداً؟