بقلم : بكر عويضة
مفهوم أن كل شخصية تتصدى للعمل العام تفقد إمكانية التحكم في ضبط ما يُكتب، أو يذاع، أو يُنشر، أو حتى يُشاع همساً بين الناس، فيما يخص شأن الجانب الأوسع من خصوصياتها. لكن ما يصعب أن يُفهم، أحياناً، هو تعمّد نبش القبور، بقصد تجريح شخصية عامة وتشويه صورتها على نحو يبدو كأنه اغتيال لها حتى بعد مماتها. الأرجح أن يصح هذا القول في شأن فيلم مثير للجدل يعرض سيرة حياة أشرف مروان، صهر جمال عبد الناصر، الزعيم الأكثر شعبية في العالم العربي منذ منتصف خمسينات، وطوال ستينات القرن الماضي، خصوصاً على صعيد المواجهة العربية - الإسرائيلية، حتى وفاته نهار 28 - 9 - 1970 بعد يوم من جهد مضنٍ لوقف أنهار الدم الأردني - الفلسطيني في عمان.
مضمون الفيلم، الذي يحمل عنوان «الملاك»، ويجري إطلاقه رسمياً في الرابع عشر من الشهر المقبل، يريد، وفق ما يتضح مما نُشر عنه في غير موقع إخباري، توصيل رسالة للمشاهدين مؤداها أن أشرف مروان هو أهم جاسوس عمل لصالح إسرائيل خلال القرن العشرين.
يس من المبالغة القول إن هذا المضمون هو نوع من الافتراء، ومن ثم فإن هذا «الملاك» الذي يُراد به تصوير أشرف مروان هو «ملاك زائف» ويرقى لدرجة محاولة اغتيال سمعة الرجل في قبره، بعدما تعذّر الإثبات، بالدليل القاطع، تورط جهاز «الموساد» في الدفع به من الطابق الخامس في البناية التي كان يسكنها نهار 27 - 6 - 2007، ثم محاولة ترويج قصة إقدامه على «الانتحار»، إذ بعد ثلاث سنوات على مصرعه المأساوي، انتهت محكمة التحقيق العليا في بريطانيا يوم 14 - 7 - 2010 إلى إصدار حكم أدرج وفاة أشرف مروان في قائمة الوفيات غير معروفة الأسباب، وهو ما وجد القبول، يومها، من جانب حرمه، السيدة منى، لمجرد أن الحكم استبعد فرضية «الانتحار»، مع ملاحظة أنها اتهمت في تصريح لصحيفة «الأوبزيرفر» (عدد 11 - 7 - 2010) جهاز «الموساد» الإسرائيلي باغتيال زوجها، استناداً إلى بوح أشرف لها أن حياته مستهدفة.
واضح أن الفيلم يتناول من منظور إسرائيلي حياة شخصية عربية غير عادية، ارتبطت بصلة مصاهرة متميزة، فأتاحت لها تولي مواقع بالغة الحساسية. يدعم هكذا افتراض أن سيناريو الفيلم، وفقاً لصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، يستند إلى كتاب وضعه يوري بار جوزيف، الأكاديمي والكاتب الإسرائيلي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا، ونُشر بالعبرية أولاً تحت عنوان «الملاك: أشرف مروان»، ثم صدر مترجماً للإنجليزية بعنوان «الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل». كما ترون، كلها عناوين تتعمد توريط الرجل في أمر ليس سهلاً، ولا ممكناً، للعقل أن يقبل به. التعامل المصري، رسمياً، إزاء مصرع أشرف مروان الغامض، شدد على رفض أي مزاعم إسرائيلية بشأن التجسس لصالح تل أبيب. تشييع الجنازة اتسم بحضور رسمي وبمستوى عالٍ لافت. الرئيس حسني مبارك أكد أن أشرف مروان مارس أدواراً وطنية مهمة، لكنه نفى أنه تجسس لصالح أي طرف. مع ذلك، راجت في الوقت ذاته مزاعم ادعت أن الرجل أدى دور «العميل المزدوج» بمعرفة الأجهزة المعنية في القاهرة، ولصالحها، وأنه نجح في تضليل الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية عشية حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، إن صحت هكذا ادعاءات، فليس من الصعب تصوّر احتمال الانتقام البشع من قبل الطرف المُضلل.
أياً كانت حقيقة الأمر، سواء فيما يخص أشرف مروان أو غيره ممن تشبه خاتمته خواتيمهم، أو نهاياتهن، يبقى دائماً لكل نهاية لفّها الغموض بعدها المأساوي. تغوص في أعماق ملفات حروب تجسس الدول على بعضها البعض، قصص نهايات بقدر ما سوف يظل غموضها محيّراً للمؤرخين، ولكل باحث عن الحقائق، قدر ما سيبقى الغموض ذاته مؤلماً لذوي العلاقة مع أصحاب تلك النهايات المفجعة. أما الأمر المؤكد فخلاصته أن اسم أشرف مروان أُضيف، يوم مصرعه المريب، إلى قائمة أغلب الظن أنها لن تتوقف أبداً عن استقبال أسماء جديدة.
نقلًا عن الشرق الآوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع