بقلم:بكر عويضة
بدءاً، يجب استحضار القول ذائع الصيت بين الناس أجمعين منذ قديم الأزمان: «أهل مكة أدرى بشعابها». تُرى، هل أن الصادق النيهوم، الفيلسوف الليبي الكبير المُتَوفى مبكراً (15-11-1994) عن سبعة وخمسين عاماً فحسب، والذي تحدى الكثير مما هو مألوف في التراث، كان يدري عندما وضع روايته غير العادية «من مكة إلى هنا» أن أوضاع بلده سوف يأتي عليها يوم توجب استدعاء ذلك المثل الحجازي القديم، فيتردد في المجالس أن «أهل ليبيا أدرى بشعابها»؟ الواقع أن الاحتياج لتذكّر حق الليبيين، قبل غيرهم، في تقرير مصيرهم، من خلال تبيّن الصالح من الطالح، فيما يتعلق بكيفية الوصول إلى تصالح حقيقي بين قيادات فصائلهم المتصارعة، هو احتياج أوجبه تكاثر، أو قل تزاحم، أطراف التدخل في الشأن الليبي من الخارج، كلٌّ منهم يصدع بالزعم أنه الأصلح، والأعدل، وربما الأحق، بباطل ذلك التدخل، إذ يعرف كل ذي عقل أن كلاً من أولئك الزاعمين إنما تهمه مصالح بلده أولاً، قبل ليبيا والليبيين.
بيد أن الوقت تأخر لكفّ أيدي أطراف الخارج عن التدخل في الشأن الليبي، بمعنى أن مأزق ليبيا وصل، بأيدٍ ليبية، إلى نقطة لم يعد ممكناً معها الاستغناء عن الاستعانة بجهات دولية تفتح الطريق، وتزيل عقبات التصالح بين فئات حرب نشبت منذ إطاحة حكم العقيد معمر القذافي. السؤال المُحزن حقاً، هو: لماذا سمح الليبيون غير المرتبطين بأي ولاءات خارجية أساساً، للزعامات السياسية العائدة من منافي المعارضة حيثما كانت، بكل ارتباطاتها ومصالح أجنداتها، أن تعيث فساداً في بلاد هجروها طوال سنوات الحكم القذافي، ثم سارعوا يوظفون ما حدث لها، عقب غارات حلف «الناتو»، التي تجاوزت حدودها، فدمرت بنية البلاد التحتية، وكادت تبيد كل وجود للجيش الليبي؟ هو سؤال ليس محزناً فحسب، بل ربما يبدو غير منطقي أيضاً، ذلك أنه يشبه، إلى حدٍّ ما، توجيه السؤال بما يحمل من لومٍ، إلى الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، بما يحملّهم مسؤولية مفاسد قيادات تنظيماتهم العائدة من المنافي بعد اتفاق أوسلو (1993) ثم انتقال عدوى المفاسد ذاتها، أو أسوأ منها، إلى القيادات المحلية، سواء تلك التابعة لحركة «حماس»، أو «الجهاد الإسلامي»، أو «فتح»، أيضاً. قد لا تبدو أوجه الشبه واضحة بين الحالتين، الفلسطينية والليبية، لكنها في الواقع قائمة، بل هي موجودة كذلك في العراق، وفي سوريا، وفي لبنان، وفي كل مكان يتساهل فيه عموم أهل البلد مع قيادات تنظيماتهم عندما يضعون قرارهم، ومن ثَمّ مصير بلادهم، بأيدي الغرباء.
تُرى، ما الفائدة، الآن، إذا قيل إن مؤتمر برلين، الأحد الماضي، ومن قبله وساطة موسكو، وقبلهما محاولات عدة في الصخيرات بالمغرب، لم يكن لها ضرورة، أصلاً، ولا حتى كانت هناك حاجة لتعيين مبعوث للأمم المتحدة، لو أن ساسة ليبيا بمختلف تياراتهم، وضعوها أولاً في موازين حساباتهم؟ ثم، ما الفائدة كذلك، إذا قيل الآن، مُسبقاً، إن كل هذه المساعي لن تجدي نفعاً إنْ لم تحرص زعامات الأطراف الليبية المتصارعة على تنقية النيّات حقاً من كل شوائب الولاءات الخارجية، فتخلص التوجه نحو خلاص ليبيا الحقيقي من كل ما أصابها من كوارث بسبب صراعات ولاءاتهم قبل أي سبب آخر. لقد أسهم ساسة ليبيون، سواء عن سابق قصد وتصميم، أو نتيجة جهل غير مفهوم الأسباب، بما يكفي، حتى الآن، في تعقيد أوضاع بلادهم منذ إطاحة حكم العقيد معمر القذافي، وبتعبير أدق فور التحقق من تغييبه، اغتيالاً، عن المشهد الليبي. وإذ الحال هكذا، يمكن سؤالهم: أما آن لهم أن تصحو ضمائرهم فيحاسبوا أنفسهم قبل أن تُحاسَب؟ بلى.
حقاً، ليبيا يستعيدها الليبيون أنفسهم، قبل غيرهم، مما ألمّ بها من عبث الآخرين بأمن أهلها وأمانهم، طمعاً بثرواتها. أتُراني تجاوزت حدودي في الحزن على ما آل إليه حال ليبيا؟ حسناً، سوف أحاول أن أجد بعض عذرٍ بما لأرض ليبيا وأهلها من فضلٍ عليَّ. لقد آوتني مطلع شبابي، فمشيت فوق رمال صحرائها الذهبية في غدامس وسبها جنوباً، وسافرت على طريق ساحلها المتوسطي من طرابلس غرباً، إلى أمساعد شرقاً، ولولا فضل صحافتها، وما تعلمتُ على أيدي روادها الكبار، مثل الصحافي الكبير رشاد بشير الهوني، والصادق النيهوم نفسه، ربما ما كنت أكتب هذه الكلمات هنا اليوم. دمتِ ليبيا بخير لأهلك كلهم، ولكل من أحبك حقاً.