على بعد ساعات قلائل، لن تدق أجراس بيت لحم، بهجة واحتفالاً بمولد السيد المسيح، لا سيما بعد ما قاله الراوي، من أنه شاهد «الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان».
كيف لبيت لحم أن تفرح وهي «تعطي المجد لله في الأعالي» لكنها لا ترى «على الأرض السلام» ولا «المسرّة والرضا بين الناس»، بل تتابع مأساة المولود الذي لم يجد له مسكناً غير مغارة لا تليق بالبشر، وذلك عبر آلاف المشردين على طرقات غزة، أطفال باكون، ورجال شيوخ مهانون ومطرودون، ونسوة عجائز تتملكهم الحسرة، في حين الجوع والمذلة يضربان حصاراً من حولهم جميعاً.
أنوار بيت لحم مطفأة، وشجرة «الكريسماس» بأضوائها المفرحة، صارت معتمة لدرجة القلق، ليتغير المشهد خارج كنيسة المهد، فلا زينات تعلق، ولا حشود تتدفق من مشارق الأرض ومغاربها للاحتفال بعيد الميلاد.
مجلس كنائس بيت لحم حسناً فعل، أن يقتصر العيد على الصلوات الطقسية في هدوء يكسوه الأسى، فلا موضع للفرح في القلب، والآلة الجهنمية العسكرية الإسرائيلية تقصف صباح مساء كل يوم من غير وازع أو رادع.
بالنسبة للفلسطينيين، مسيحيين ومسلمين، عُدّ الميلاد على مدى مئات السنين فرصة مزدوجة، فمن ناحية هو نافذة على العالم، يتثاقفون من خلالها عبر الزوار والحجاج مع العالم الخارجي، علّ قصة صبرهم وكفاحهم تصل إلى أصحاب القلوب الصالحة والنفوس العادلة، فتتغير الأوضاع وتتبدل الطباع، عطفاً على ما يدرّه هذا الموسم السياحي من دخل على أصحاب مهن وحرف تجد رواجها في هذه الأيام.
من جهة أخرى، لطالما عُدّ الميلاد كذلك مناسبة لتوطيد أواصر المودة والعيش الواحد بينهما، لا سيما في ظل أحتلال غاشم جاثم على صدورهم.
الراوي عينه يخبرنا أن شوارع بيت لحم مساء العيد، باتت خاوية، ولم تعد نبضات الحياة المفعمة بالعمل والأمل تخفق، بينما أنغام الجوقات وصبيان الكشافة، أولئك الذين درجوا على استعراض آلاتهم الموسيقية، توارت ولم يعد يُسمع لها حس، أما الطعام الفلسطيني التقليدي الذي كانت رائحته تعبق الأجواء، فبدوره لم يعد له مكان.
«كيف يمكننا أن نحتفل بعيد الميلاد وقد قُتل وجُرح آلاف الفلسطينيين، ودُمّرت آلاف المنازل في غزة»، هكذا تحدث المطران وليم الشوملي، النائب البطريركي العام للقدس وفلسطين.
المجتمع المسيحي الصغير في غزة، لم يكن استثناءً من الدمار والمرار الأخيرين، فهناك 35 أسرة دُمّرت منازلهم وباتت الخيام مستقرهم، وعشرات المسيحيين قُتلوا، من بين 1000 مسيحي فلسطيني غزاوي، وبلغ الغي الإسرائيلي قصف الكنائس والمستوصفات التي ترعاها الراهبات، كما تقصف المساجد وتنتهك حرماتها.
يستلفت الانتباه هذه المرة أن القيادات المسيحية لم تقف مكتوفة الأيدي، طالبة عبر الصلاة المدد السماوي، على أهميته، بل وجدناها تمارس تحركات تتسق وروح المسيحية.
التنظير المتقدم تحول إلى مخاطبات فعلية للمسؤولين الدوليين، وفي مقدمهم الرئيس الأميركي، جو بايدن، المفترضة كاثوليكيته عقائدياً، فيما الحقيقة أنه بعيد كل البعد عن معنى ومبنى الإيمان بالإنسان قبل الأديان.
في رسالة لا تنقصها الجرأة، طالب ممثلو الكنائس في بيت لحم، سيد البيت الأبيض، ببذل الجهود والضغط باتجاه إنهاء العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، والعمل على تحقيق الأمن والاستقرار والسلام والعدالة في الأرض المقدسة. وجاء ذلك في رسالة سلموها إلى مجلس مستشاري بايدن، بالإضافة إلى تسليم رسائل موازية إلى الكونغرس ومجلس الشيوخ الأميركيين.
جاء في الرسالة المكتوبة بمشاعر الجرح الشرق الأوسطي الذي يكاد لا يندمل عبر عقود: «إنه كان ينبغي أن يكون الميلاد موسماً للفرح والأمل، غير أنه تحول هذا العام موسماً للحزن والموت واليأس».
ما يضاعف من مشاعر الانكسار لدى سكان بيت لحم، مسلمين ومسيحيين دفعة واحدة، إحساسهم بالتمييز العنصري البغيض بينهم وبين أهالي أوكرانيا.
لم تنفك الآلة الإعلامية الغربية، أوروبية وأميركية، تندّد بما يجري للمدنيين العزَّل هناك، في حين الصمت يخيّم عليهم تجاه الغزاويين اليوم، و«البيت لحميين» حكماً في الغد، إنها مسألة وقت وليس أكثر.
هل نهول إن قلنا إن ما جرى ويجري في غزة، هدم ما تبقى من جدران الوصل والتواصل بين الشرق والغرب؟
لا يفاجأ المرء حين يستمع إلى أصوات بعينها تعود لتنظير المشهد وكأنه حرب دينية، لا سيما بعد أن بات الفلسطيني المسيحي، مهاناً وشهيداً؛ ما يجعل فكرة «الأخوة الإنسانية»، بالنسبة له نوعاً من التهافت غير المقبول.
حتى في زمن أعياد الميلاد لم تتورع قوات جيش الاحتلال عن اقتحام مدينة بيت لحم، في حين قناصتها وجّهوا نيران بنادقهم للأمهات وبناتهن؛ ما دفع البابا فرنسيس إلى عدّ ما يجري هناك نوعاً من «الإرهاب»؛ الأمر الذي أدى إلى انتقاد جماعات داعمة لإسرائيل له عبر وسائل الإعلام، ثم لم تلبث أن مضت في تشويه سمعته من خلال وثيقة أخيرة لم تفهم من جانبهم، بل استخدمت ذريعة للانتقاص من قدره في عيون العالم.
«كريسماس» بيت لحم الحزين يُفقد المجتمع الدولي مصداقيته، لا سيما الحاضنات التي كان ينظر إليها على أنها مسيحية، ما يترك موروثاً خطيراً في الصدور، ويعود بنا من جديد إلى مربع صراع الحضارات.
يبدو وكأن العالم عائد مرة أخرى إلى حالة فقْد التوازنات المرتبطة بالتعايش السلمي، بين الأجناس والأعراق، لا سيما في الشرق الأوسط، عوضاً عن أن تكون أنوار المشرق في زمن الميلاد، كاشفة عما يجمع بأكثر مما يفرق، ولتذكير العالم شرقاً وغرباً بأن الإيمان وُلد مشرقياً وانتشرت أنواره عبر بقاع وأصقاع الأرض كافة.
مريم تبكي في مغارتها، بينما ترى مواليد غزة يعانون المهانة التي عاشها ابنها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.