بقلم : إميل أمين
لا يصدق الحاكم أحياناً أن أحلامه تتبخر من بين يديه، وأن الزمن لا يمكن أن يعود إلى الوراء؛ ولهذا يحاول صباح مساء كل يوم أن يهرب إلى الأمام، معلقاً فشله على الآخرين.
يوماً تلو آخر تثبت لنا الأحداث أن الأحقاد الدفينة لا تصنع الأمجاد، ولا تبنى الدول الكبرى ولا تقيم الإمبراطوريات أو تحييها من الرماد. لماذا يتبنى الرئيس رجب طيب إردوغان كل هذه السلبية حيال العالم العربي وفي المقدمة منه المملكة العربية السعودية ومصر وسوريا؟ هل بسبب المشاعر القديمة الموروثة، أم لأنه يرى تجارب نهضوية صاعدة تقدم نموذجاً مختلفاً للعلاقة مع العالم وفي بناء المجتمعات.
يبدو أن الرئيس إردوغان فقد البوصلة منذ أن أفشلت جموع المصريين في الثلاثين من يونيو (حزيران) 2013 مخططه لتسكين الأصوليات مقاعد الحكم في العالم العربي كوكلاء، وضاع الأمل في عثمانية جديدة وإنْ بثياب مغايرة رسماً، لكنها تبقى نفساً كما هي، ولعل ما يزعج الرجل هو تلك الصحوة العربية والدعم والمساندة التي لقيتها مصر من أشقائها في المملكة والإمارات وبقية دول الخليج باستثناء قطر، التي ستعرف بعد رحيل العمر أنها كانت تطارد خيط دخان.
لا يزال نموذج النهضة السعودية للأمير محمد بن سلمان يسبب قلقاً داخلياً وخارجياً لإردوغان، ولا ينفك يطلق تصريحاته يوماً تلو الآخر تجاه المملكة وولي عهدها، والجميع يعرف أن الفشل الذريع الذي يطارده في صحوه ومنامه، هو الأصل في كافة محاولات إلقاء الذنب والعبء على الآخرين.
لا يحق للرئيس التركي إلقاء دروس عن الحريات وحقوق الإنسان؛ ذلك أن الناظر إلى سجله يرى أفعاله القائمة والقادمة تجاه شعبه في هذا السياق، ولا سيما منذ الانقلاب الوهمي الذي تذرع به لفرض طوق حديدي على بلاده، التي باتت شبه مرفوضة من الشرق والغرب على حد سواء.
يحاول إردوغان أن يتمسكن، لكن الجميع يعلم علم اليقين أن الرجل ينتمي قلباً وقالباً إلى قافلة الحكام المتشددين، فمن جهة يطارد مواطنيه في الداخل التركي، ويزج بالآلاف منهم وراء القضبان، ويفصل من يشاء؛ الأمر الذي دعا الأيام القليلة الماضية إلى خروج الآلاف من شعبه في مظاهرات تطالب بدعم المعتقلين المضربين عن الطعام في السجون، ولا تتوقف آلته عن إصدار أحكام الإعدام على مواطنيه ما بين المؤبد والموت، وآخرها محاكمة مشددة لـ48 طياراً من سلاح الجو التركي الرافضين لسياسته.
أما في الخارج القريب، فلا يزال إردوغان يواصل قمع الأكراد، وقد سجن رجالاته منذ أيام برلمانيتين سابقتين منهم بتهمة دعم الإرهاب، وتهديداته بعمليات في شمال شرقي سوريا ضدهم قائمة، ورؤاه لمناطق عازلة غير مقبولة من أحد.
قبل بضعة أيام كان التقرير السنوي لتقييم التهديدات على مستوى العالم الصادر عن مجمع المخابرات الأميركية، يحذر من مخاطر تزايد الخلافات المستمر بين الولايات المتحدة وتركيا؛ الأمر الذي يدعونا للتساؤل: «ترى ما السبب؟».
يقول التقرير الأميركي الأحدث، إن التنامي السلطوي لقادة تركيا هو السبب؛ ولذلك فإن الاستخبارات الأميركية تدق الآن أجراس الإنذار حول علاقة واشنطن وأنقرة؛ لأن الخلافات تتعمق يوماً تلو الآخر بين البلدين.
مشكلة الرئيس إردوغان أنه يعيش في شرنقة صنعها لنفسه وبنفسه. والأكيد أن التلاعب على المتناقضات أمر لا يستقيم في حال عالم بات كاشفاً لأوراقه المغشوشة.
آخر العنتريات الوهمية والأحلام المخملية الواهية للرئيس التركي، ذلك الموقف من فنزويلا ونظامها الذي أفقر شعبها، وحوّلها من دولة يصل ناتجها الإجمالي السنوي نحو نصف تريليون دولار، إلى دولة يهرب شعبها للجوار من أجل البحث عن لقمة عيش تسد رمق جوعاها.
ينافح ويدافع إردوغان عن نظام نيكولاس مادورو، ويتهم أوروبا بعرقلة الديمقراطية في كاراكاس، ويواصل محاولة تبرير دعمه لنظام بات يتهاوى، الأمر الذي يستدعي علامة تعجب عن الرجل الذي يتحدث عن الديمقراطية، وهو الممثل الرسمي لنظام ديكتاتوري توتاليتاري في بلاده.
أحقاد دفينة ليست موجهة ضد العرب فقط، بل جزء بالغ منها منصبّ على الأوروبيين الذين رفضوا إدخال بلاده في اتحادهم، وعلى الأميركيين الذين هدد رئيسهم بسحق ومحق وتدمير اقتصاده، وفي الوقت نفسه يدرك إردوغان أنه لن يقدر على شيء في مجابهتهم، وأن آماله في الوقيعة بين موسكو وواشنطن تتجاوزها مصالح الكبار من الأقطاب الدولية، في حين يقعد هو ملوماً محسوراً في الحال والاستقبال.
تركيا دولة كبرى تستحق قيادة رشيدة... الكراهية والأحقاد لا يفيدان.
نقلً عن الشرق الاوسط اللندنيه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع