بقلم : إميل أمين
قبل بضعة أيام انطلقت في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية أعمال التدريب العسكري «الموج الأحمر1»، الذي شاركت فيه القوات الخاصة والمشاة التابعة للقوات البحرية لست دول عربية، هي السعودية، والأردن، ومصر، والسودان، وجيبوتي، واليمن، إضافة إلى مراقبين من الصومال.
تجيء التدريبات كأول عمل ميداني على الأرض بعد توقيع الدول العربية المطلة على البحر الأحمر اتفاقاً لإنشاء كيان يضمها معاً؛ بهدف تأمين مصالحها الاقتصادية، وحماية أمنها القومي.
أسئلة عدة تستدعيها أعمال التدريب العسكري الأخير، في مقدمتها: ما الهدف منها... وهل هي استعدادات للحرب، أم أن العبارة الكلاسيكية العسكرية «التدريب في السلم يوفر الدم في الحرب» هي التي تطل بوجهها علينا من نافذة الأحداث؟
قبل الجواب عن علامات الاستفهام المتقدمة ينبغي الإشارة إلى وضع البحر الأحمر في الأعوام الأخيرة؛ إذ لا يغيب عن ناظرَي المتابع المحقق والمدقق أن تهديدات استراتيجية حقيقية تحيق بها، وأطماعاً تكشف عن هوى في نفس قوى إقليمية بعينها، لا تخفي رغبتها غير المشروعة في أن تكون صاحبة اليد الطولى هناك، وليذهب الأمن القومي العربي إلى ما شاء له أن يذهب.
قبل عقد تقريباً كاد البحر الأحمر ومياهه يتحولان إلى مجال لأعمال القرصنة وإعاقة حركة الملاحة فيه، وقد كانت الاضطرابات السياسية والحروب الأهلية في دول بعينها، ولا سيما الصومال، سبباً رئيسياً في تهديد سلامة التجارة العالمية، وحركة النفط العالمية؛ الأمر الذي دعا إلى التفكير في عسكرة المياه الدولية، مع ما لذلك من تبعات وانسحابات سلبية على سكان الدول العربية المشاطئة بنوع خاص، وهي صاحبة المصلحة الأولى والكبرى في بقاء مياه البحر الأحمر آمنة من أي قلاقل.
أمر آخر كان يتطلب ولا شك قراراً حاسماً وحازماً، تمثل في فكرة إنشاء كيان عروبي للدفاع عن البحر الأحمر، ويتصل بما يجري من تدويل لا شك فيه، لبعض المواقع والمواضع على شواطئه، بمعنى صراع دولي للحصول على موطئ قدم، وإقامة قواعد عسكرية على شواطئه، وهذا ما نراه بالفعل من خلال سباق صيني - أميركي، روسي - أوروبي، تهيئةً لمعركة القرن الحادي والعشرين التي ستدور رحاها ولا شك على أراضي القارة السمراء، وإن لم تكن معارك بالمعنى العسكري المتعارف عليه كلاسيكياً، فهناك الصراع الاقتصادي للحصول على موارد دول القارة من جهة، وهناك ذرائع متصلة بالحق أو الباطل بفكرة مطاردة الإرهاب في الكثير من جيوب الدول الأفريقية.
على أن الجزئية الثالثة هي الأكثر خطورة، وحجر رحاها المرذول هو إيران وأطماعها في بسط نفوذها على البحر الأحمر والتحكم في مضيقه الرئيسي (باب المندب)، عبر وكلاء الشر المتمثلين في جماعة الحوثي الكائنة في اليمن.
ليس سراً القول إن إيران لديها مخططات جهنمية لإلحاق الأذى بالبحر الأحمر، ولا سيما أنه يمثل شريان حياة لعدد من دول الكيان الناشئ، وفي المقدمة منها مصر، ذلك أن أي اختلالات هيكلية في شريان مياهه، تعني فقدان قناة السويس لدورها العالمي، وضرب الاقتصاد المصري في مقتل؛ الأمر الذي يحلم به الملالي، صباح مساء كل يوم.
وعودة إلى الأسئلة المتقدمة: «فهل تعني تلك التدريبات أن الكيان العربي الجديد يسعى إلى الحرب أو المواجهة العسكرية؟ المؤكد أن القارئ الجيد لأحد أكبر صناع الاستراتيجيات العسكرية ومفكريها عبر التاريخ الصيني صن تزو، يدرك أن الأمر ليس كذلك، وإنما ضرب من ضروب الارتكاز على عاملين أشار إليهما تزو قبل بضعة آلاف من السنين، وهما: «مَلَكة العقل، والفضيلة».
والفضيلة هنا تتمثل في المناصحة التي لم تنفك دول الخليج وبقية الدول الشرق أوسطية توجيهها لإيران؛ لكي تغير من سياساتها العدائية، لكنها ماضية في غيها، سادرة في أحلامها الإمبراطورية الحمقاء.
ولما كانت الفضيلة لا دالة لها على الإيرانيين وغيرهم؛ لذا كانت مَلَكة العقل تستدعي العمل الجاد والمنظم، عبر استراتيجيات عسكرية استشرافية واستباقية، وبطريقة تؤدي إلى تسهيل تحقيق النصر، عبر إيجاد قواعد ثابتة للمقارنة العقلانية بين أطراف النزاع، ولا سيما تلك المتصلة بعوامل ترجيح الفوز في الميدان الواسع، ليس فقط في ساحة الوغى، ومنها المعنويات، والطاقة الفكرية والجسدية، والبيئة والظروف الجوية، والتخطيط والمال، والنظام والتدريب والمكافآت والعقوبات.
والمؤكد أن رسائل «الموج الأحمر1»، تبعث برسائل ذكية للخصوم، وتسعى من جديد لإحراز انتصارات أدبية أولاً، عبر تأكيد وحدة الصف والتوجه العربي الاستراتيجي، وتالياً انتصارات عسكرية على الأرض حال القارعة، وإن بقي في عقول القائمين على الكيان العربي الجديد للدول المشاطئة للبحر الأحمر «أن إحراز مائة انتصار في مائة معركة ليس هو الأفضل، بل إن إخضاع العدو من دون قتال هو أفضل ما يكون».
هل يمكن القطع بأن «الموج الأحمر1»، هو البداية لبلورة رؤية مشتركة لطرح القوة العربية المشتركة؟
تاريخياً، يذكرنا البحر الأحمر بأيام مجيدة في تاريخ العرب في القرن العشرين يوم أن قامت القوات البحرية المصرية، التي تعد الآن القوة الضاربة الأولى في الشرق الأوسط، والرابعة عالمياً، بإغلاق مضيق باب المندب في وجه القوات المعادية، مع الدعم اللوجيستي الكامل والشامل من دول المنطقة كافة.
وفي كل الأحوال، يمكن القطع بأن تدريبات «الموج الأحمر1» رصيد مضاف للحضور العربي عسكرياً؛ إذ تؤدي إلى تبادل الخبرات المشتركة في ميدان القتال، وتعزيز القدرات القتالية، واكتساب خبرات لحماية الأمن البحري بنوع خاص، عطفاً على ذلك التنسيق بين الدول المشاركة لمواجهة الإرهاب.
جاءت تدريبات «الموج الأحمر1»، بعد أيام قليلة من سابقتها التي جرت على الأراضي المصرية تحت عنوان «درع العرب»، وسبقتهما مناورات «النجم الساطع» بحضور أميركي ومشاركة من قوات المملكة؛ الأمر الذي يعكس فهماً واضحاً وتفكيراً علمياً عسكرياً لترتيب الأوراق، في منطقة تموج بالتغيرات الجيوسياسية، وفي وقت تحاول الأطراف الدولية الكبرى فيه رسم ملامحها وحدودها الجديدة، لكن تبقى الطروحات الذاتية، والرؤى الإقليمية لدول المنطقة، هي الأجدر بالزخم والدعم، فما حك جلدك إلا ظفرك؛ ذلك أنه وإن كانت خطوط الجغرافيا، قد وضعت العرب في مجال تلاحم لا بد منه مع أعداء تاريخيين، فإن خيوط التاريخ تبقى في أيدي حكماء العرب من قادة اليوم في الحال والاستقبال.
نقلً عن الشرق الاوسط اللندنيه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع