توقيت القاهرة المحلي 22:47:21 آخر تحديث
  مصر اليوم -

خسوف العقل... المقدّس لا يدنّس

  مصر اليوم -

خسوف العقل المقدّس لا يدنّس

إميل أمين
بقلم - إميل أمين

هل يمكننا اعتبار مصادقة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، على قرار يدين أفعال الكراهية الدينية أمراً جيداً بالمطلق؟

ظاهر القرار يؤشر إلى تطور إيجابي في مفهوم التعايش السلمي الدولي، والدفع إلى طريق ترسيخ العلاقات الإيجابية بين الأمم والشعوب، من خلال احترام مقدساتها.

غير أن نظرة سريعة للتصويت الذي جرى، لا تطمئن المرء، لا سيما في ضوء الخلط الواضح بين حرية التعبير من جهة، ونقد المقدسات وصولاً إلى تدنيسها من جانب آخر.

بداية لا بد من تذكير القارئ بهذا المجلس الذي يعد هيئة حكومية دولية، داخل منظومة الأمم المتحدة المسؤولة عن تدعيم جميع حقوق الإنسان وحمايتها في جميع أرجاء العالم، وعن تناول انتهاكات الحقوق البشرية، وتقديم التوصيات بشأنها، كما أنه يتمتع بالقدرة على مناقشة جميع القضايا والحالات الموضوعية لحقوق الإنسان التي تتطلب اهتماماً طوال العام.

يمكن القطع في ظل هذا التعريف، وفي ضوء الشوفينية الغربية التقليدية بشأن حقوق الإنسان، بأن دولاً مثل أميركا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، ربما كنا سنجدها في مقدمة المصوتين لصالح هذا القرار، انطلاقاً من إرث تاريخي تجاه حرية الإيمان والمعتقد الأصيلين، الأمر الذي تم تكريسه في عصر الأنوار الأوروبية، واعتقدت فيه أميركا الوليدة الجديدة، التي كرّس دستورها الحق في حرية العبادة.

ما حدث في جلسة التصويت كان وعن حق مثيراً للتأمل، وربما مدعاة لفضح زيف الازدواجية الحقوقية الغربية. السفيرة الأميركية في المجلس، ميشيل تايلو، أبدت أسفها لاضطرار بلادها للتصويت ضد القرار الذي وصفته بأنه غير متوازن، ويتعارض مع مواقف اتخذتها واشنطن منذ فترة طويلة بشأن حرية التعبير.

أما المندوب الفرنسي جيروم بونافون، بشكل يشبه الالتفاف حول الغرض الرئيسي لهذا المجلس، صرح بالقول: «إن الهدف من هذا الكيان الأممي، حماية الأشخاص، وليس الأديان أو المذاهب، أو المعتقدات ورموزها».

أما السفير البلجيكي مارك بيكستين، الذي تحدث باسم الكتلة الأوروبية، نجد عنده رأياً يعتبر فيه أن «مسألة تحديد الخط الفاصل بين حرية التعبير والتحريض على الكراهية مسألة معقدة».

أي أنوار علمانية متطرفة تعمي، تقود غالبية دول الغرب، في حاضرات أيامنا؟

ومن الشواهد أيضاً، إن لم يكن مفاجئاً، أن الولايات المتحدة الأميركية، ومنذ الساعات الأولى لقيام متطرف بحرق نسخة من المصحف الشريف في السويد، لم تقم بأكثر من إصدار عبارات جوفاء، من عينة أن هذا الأمر «تصرف مخيب للآمال»، على الرغم من مطالبة الكثر من الأميركيين المسلمين الرئيس بايدن، بإدانة هذه الحادثة بشكل واضح وصريح لا يقبل التلاعب والمواربة واللغط على المتناقضات.

أن يُقدم متطرف رجعي، مملوء بأحقاد تاريخية، على فعلة نكراء مثل هذه، أمر وارد حدوثه، لا سيما في ظل حالة العمى العلماني السائدة في الغرب في هذه الأوقات، التي تجري تحت مزاعم حرية التعبير.

لكن أن يصل الأمر إلى حد الدفاع المقنع عن الفعل المشين، كما حال الدول التي رفضت المصادقة على قرار مجلس حقوق الإنسان الأخير، فهذا يعني أن الخلط بين المطلق والنسبي قد بلغ مداه، فالأديان والكتب المقدسة مطلقات عند أصحابها، المساس بها أمر كفيل بالإخلال بالسلم العالمي، بينما يمكن الاختلاف حول القضايا المؤدلجة بالاتفاق أو الافتراق، بالشجب والتنديد والإدانة، ذلك أنها منزوعة التقديس، إذ تقع في نطاق قضايا الرأي والعقل، ومقارعة الحجة بالحجة، والدليل بالبرهان.

هل دلفت دوائر الغرب منطقة «خسوف العقل» قولاً وفعلاً؟

الخسوف ظاهرة فلكية، تحدث عندما يحجب ظل الأرض ضوء الشمس، المنعكس على القمر، في ظل الأوضاع العادية، وقد يحدث الكسوف كلياً أو جزئياً أو شبه ظل.

يكاد المرء يقطع أن غالبية الدوائر الغربية اليوم قد سقطت فريسة لما سمّاه الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني الكبير ماكس هوركهايمر بـ«خسوف العقل» الذي عنون به أحد أهم كتبه القيمة، الصادر عام 1947.

هوركهايمر الذي ترأس معهد العلوم الاجتماعية في جامعة فرانكفورت الألمانية، قبل أن يطرده منها هتلر، ناقش لاحقاً وبعد سقوط الفوهور، كيف استطاع النازيون أن يبرزوا جدول أعمالهم على أنه عقلاني، رغم الوحشية المخيفة التي لفت مشروع الرايخ الثالث، كما تناول في كتابه هذا أيضاً براغماتية جون ديوي، المؤسس المشارك للعقلية الأميركية، مع ويليام جيمس، وقد وصفها بأنها صعبة ومعقدة.

تبدو أوروبا وأميركا، عن وعي أو غيبوبة، منحرفتين ومنجرفتين في طريق خسوف عقلي قاتل وخطير، لن يلبث أن يتحول إلى آيديولوجيات سياسية يمينية مريرة، سوف تفرز ما هو أسوأ من النازية والفاشية، إذا مضتا في طريق عبادة الذات وتكريس مطلقية الإنسان، وبعيداً عن أي محددات أو معايير ذات جذور روحية أو إيمانية.

قرار مجلس حقوق الإنسان يعني أنه في حال مخالفته، فإن من الممكن مساءلة هذه الدولة أو تلك، ووضع دول تحت الملاحظة من قبل المجلس، وربما تشكيل لجان خاصة للتقصي والرصد والمتابعة... هل من صدقية لهذا الطرح أم أنه أحلام يوتيوبية، سيما في ظل عدم وجود آليات الإلزام؟

الفكرة المتقدمة تذكرنا بعبارة الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، حين تندر على البابا بيوس الثاني عشر بمقولته التاريخية «كم فرقة عسكرية يمتلكها البابا؟»، وذلك رداً على رغبة الرجل ذي الثوب الأبيض في المشاركة في مؤتمر يالطا، حيث تم تقسيم العالم بعد الحرب العالمية الثانية.

من حسن الطالع أن خليفته البابا فرنسيس رأى في حرق المصحف الشريف، أمراً مرفوضاً ومداناً، وأعرب عن شعوره بالغضب والاشمئزاز من هذه التصرفات، مؤكداً أن أي كتاب يعد مقدساً من أصحابه يجب أن يُحترم احتراماً للمؤمنين به، ولا يجب أبداً استغلال حرية التعبير ذريعة لاحتقار الآخرين، والسماح بهذا أمر مرفوض ومدان، على حد تعبيره. نجح مجلس حقوق الإنسان في التخفيف من بعض الكراهية المكدسة، على حد تعبير المفكر الجزائري مالك بن بني، ويبقى «كل شيء خيراً عدا الكراهية والظلم»، بحسب تولستوي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خسوف العقل المقدّس لا يدنّس خسوف العقل المقدّس لا يدنّس



GMT 20:59 2023 السبت ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

ليتك بقيت صامتا لكن أفضل !!

GMT 04:28 2023 السبت ,14 تشرين الأول / أكتوبر

الخطر والألق

GMT 04:25 2023 السبت ,14 تشرين الأول / أكتوبر

غزة وسيناريو الخروج من بيروت

GMT 04:23 2023 السبت ,14 تشرين الأول / أكتوبر

خنادق الخوف العالية

GMT 04:17 2023 السبت ,14 تشرين الأول / أكتوبر

أميركا... الأكلاف الداخلية للأزمة الشرق أوسطية

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:43 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
  مصر اليوم - عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته

GMT 09:44 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جورج وأمل كلوني يحتفلان بذكرى زواجهما في أجواء رومانسية

GMT 12:02 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

نصائح وأفكار لإطلالات أنيقة ومتناسقة

GMT 20:58 2016 الجمعة ,28 تشرين الأول / أكتوبر

لجان البرلمان المصري تستعد لمناقشة أزمة سورية

GMT 23:21 2018 الأربعاء ,21 آذار/ مارس

تعرفي على خطوات للحفاظ على "لون الصبغة"

GMT 23:40 2018 الأحد ,04 آذار/ مارس

تعرف على سعر ومواصفات سكودا كودياك 2018

GMT 19:31 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الشرطة تكشف تفاصيل تجريد أستاذ جامعي من ملابسه

GMT 18:47 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

شركة فيات كرايسلر تكشف عن تراجع ديونها بمقدار النصف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon