هل بدأ الانقسام يتعمق، والشرخ المجتمعي يتسع، لا سيما في الدوائر الإيرانية العليا؟
يمكننا القطع بأن الشارع الإيراني في ذاته يعاني من تمزق رهيب، لا سيما بعد الاضطرابات المجتمعية الأخيرة، تلك التي لم تدارِ أو
توارِ غضبها الشديد من حكم جماعة الملالي، الذين أفقروا دولة غنية، وسحقوا شعباً عرف الرفاهية والوفرة الاقتصادية، ولم يتسرب
اليأس إلى شوارعه إلا مع مشروعات الثورة وتصديرها، والإرهاب ونشره حول العالم، واللااستقرار وذيوعه في الأرجاء.
واقع الأمر لم يعد الخلاف بين صفوف الشعب الإيراني والنخبة الحاكمة فقط، إذ تسرب فيروس النزاعات إلى داخل الجماعة الفوقية
المسيطرة على مقاليد الأمور، وبدا أن هناك العديدين في مواقع متقدمة غير راضين عن سياسات المرشد علي خامنئي وجماعة «
الحرس الثوري» الإيراني من ورائه.
ماذا عن المشاهد التي توضح لنا بجلاء أبعاد ما يجري هناك من ملامح التمرد على متن السفينة الإيرانية المعطوبة، لا سيما جراء
العقوبات الأميركية؟
تكاد إيران تعيش حالة من الجنون الفردي المطبق القريب من عبادة الفرد، بالضبط مثل بقية الأنظمة التوتاليتارية التي عرفها النصف
الأول من القرن العشرين، والنازية في المقدمة منها، فقد فرض خامنئي عبادة مهيبة لشخصه، وبات الرجل يوصف في وسائل الإعلام
بـ«المرشد الأعلى الأعظم»، ولم تعد الخطب الدينية تطالب بالولاء له بوصفه الولي الفقيه، بل أضحى الولاء والانتماء حتمياً
لخامنئي، أما من يفكرون في انتقاده فسوف يلقون الهوان والعذاب، حتى لو كانوا ملتزمين بالمبدأ الذي يمنحه السلطة المطلقة، كما حدث
مع مرشحي الرئاسة السابقين مهدي كروبي، ومير حسين موسوي.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، فإن وزير الاستخبارات الإيراني في حكومة حسن روحاني الحالية، محمود علوي، قد تجرأ في الأيام
القليلة الماضية على المرشد، حين فتح الباب أمام الإيرانيين من أجل التفاوض مع الأميركيين، وحاول أن يغلف حديثه بضرورة موافقة
المرشد، ورفع أميركا العقوبات، في أسلوب من الالتفاف والمكر الواضحين.
ولتبرير إمكانية التفاوض مع أميركا، أشار علوي إلى التفاوض الذي حصل بين بعض المسؤولين الاستخباراتيين الغربيين ونظرائهم
الإيرانيين.
كانت هذه الدعوة بمثابة اعتراض وتمرد ضمنيين على مواقف خامنئي الرافضة لاقتراح الرئيس ترمب إجراء مفاوضات من دون
شروط مسبقة، غير أن خامنئي رفض الفكرة، معتبراً أن التحدث إلى أميركا «سم»، والتفاوض مع إدارة ترمب «سم مزدوج».
الشقاق داخل حكومة الملالي تبدى سريعاً، حينما أصدرت وزارة الخارجية الإيرانية، بعد ساعات من تصريحات الوزير علوي، بياناً
نفت فيه أن يكون الرجل قد أدلى بهذا التصريح، على الرغم من أن مصدر أحاديث علوي هو وكالة أنباء الجمهورية الإيرانية
الإسلامية، التي تخضع إدارتها لحكومة روحاني، وليس وكالة غير رسمية أو شبه رسمية.
مشهد آخر يكاد يوضح أن هناك من يريد كشف أبعاد الصورة المأساوية لما يجري داخل إيران، فقد عرض التلفزيون الإيراني صوراً
من الأقمار الصناعية تظهر تفاصيل قيام ناقلة النفط التابعة لوزارة النفط الإيرانية بالرسو في ميناء بالصين، وتسليم شحنة نفطية، وجاء
العرض حاملاً أصوات الفخر بالمقدرة على الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الأميركية.
كان الحدث مدعاة لأن يشن وزير النفط الإيراني بيجن زنغنه، انتقادات شديدة، واسعة ولاذعة، على هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية،
معتبراً بذلك أنهم عرضوا الأمن القومي للبلاد للخطر.
السؤال المهم كيف للقائمين على الإعلام الإيراني أن يفعلوا ذلك، ومن يصدق أنه خطأ غير مقصود، لا سيما أن تلك الهيئة مسؤول
عنها المتشددون في صفوف الكبار من حكومة روحاني، ولا تغيب عنها أعين «الحرس الثوري» في الحل والترحال؟
تقول الهيئة إن هذه الصور قد نشرت في وقت سابق في صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية، فهل من مصلحة التلفزيون الإيراني
تعزيز فضح المستور بإعطاء مزيد من التفاصيل لتأكيد الجرم الإيراني، ومن له مصلحة في ذلك؟
الأصوات المفارقة خامنئي، وتوجهاته، تتعالى يوماً تلو الآخر، ويبدو أن وقت الصمت قد ولّى، وزمان الرضوخ لخامنئي قد انتهى،
ومن بين تلك الأصوات يجيء الجنرال حسين علائي، رئيس أركان «الحرس الثوري» السابق، الذي دعا إلى مفاوضات مباشرة
مع الولايات المتحدة، ففي ندوة له الأحد الماضي قال علائي: «لا يمكننا أن نترك المفاوضات جانباً، سواء كنا في ذروة القوة، أو في
وضع ضعيف».
وأضاف: «كان من الأفضل التفاوض عندما أعلن الرئيس دونالد ترمب أنه سيغادر الاتفاق النووي، ونحاول منعه، أو عندما قال
ترمب إنه سيتفاوض من دون شروط مسبقة. كان ينبغي أن نرد بالقول إننا سنتفاوض، ولكن بناءً على خطة من الأولويات».
ليس هيناً أو يسيراً أن يخرج قائد عسكري إيراني كبير، حتى ولو كان سابقاً، بمثل هذه الرؤية التي تضع خامنئي أمام إخفاقاته المرشح
لها أن تزيد من أوضاع الإيرانيين سوءاً.
المرشد الأعلى تكاد تصرفاته تنم عن قلق كبير، لا سيما من القيادات العسكرية الإيرانية عالية الرتب، في خضم التوتر الذي يحيطه،
لا سيما بعدما كشف الجانب الأميركي عن امتلاك الرجل ما بين 200 و400 مليار دولار في حساباته الشخصية، ما يعني انتفاء
الطهارة الثورية التي يتحدثون عنها.
خامنئي، قبل أيام، أقال قائد ميليشيات «الباسيج» التابعة لـ«الحرس الثوري» غلام حسين برور، ونائب رئيس أركان القوات
المسلحة عطاء الله صالحي.
ما الذي يخيف المرشد... الخارج الذي يكثف عقوباته، وسيكثفها بعد زيادة إيران تخصيب اليورانيوم، أم الداخل بشقيه المدني
والعسكري؟