بقلم : إميل أمين
عبر عقود طوال وحتى قبل أن يصبحَ أميراً للرياض، عُرف سلمان بن عبد العزيز بأنَّه رجل العروبة الصادق في مواقفه، والأمين على مبادئ الوحدة والاتحاد، ولعلَّ صورته متطوعاً مع إخوانه الأمراء عام 1956 أيام العدوان الثلاثي على مصر، تؤكد أنَّنا أمام حقيقة مؤكدة، وهي فكره الذي يوفِّق ولا يفرِّق، وتفكيره بعزم وعمله بحزم في إطار رفعة الأمة العربية ودرء المخاطر عنها.
جاءت قمة العلا الأخيرة لتؤكد سيرة ومسيرة خادم الحرمين في عقول الشباب والأجيال الصاعدة ونفوسهم، لا سيما تلك التي لم تعش أمجاداً عربية غابرة، وقفت فيها المملكة وقفات عز على دروب الحياة ومنعرجاتها المتباينة.
أظهرت القمة أنَّنا أمام عروبي أصيل يضع صالح ومصالح مواطني الخليج العربي، كذا بقية الأشقاء في المنطقة في أعلى سلم أولوياته، الأمر الذي يمهد الطريق للتجاوز عن الأخطاء، وتعبيد الطرق لاستمرار واحدة من أهم منظومات التعاون في الخليج العربي، ونعني بها مجلس التعاون، ويضع نجاحاته المستقبلية نصبَ عينيه.
ولعلَّ الذين لديهم علمٌ من كتاب تاريخ الملك سلمان يدركون أنَّهم أمام رجل اختارته الأقدار في توقيت حساس وحرج تتغير فيه رياح جيوبولتيك العالم برمته، ومنطقة الخليج في سويداء القلب من تلك التعديلات والتبدلات، ولهذا فإنَّها كانت في أمسّ الحاجة إلى قائد يوفّق ولا يفرّق، ويشرح ولا يجرح، رجل يجمع بين أصالة التاريخ وحداثة الرؤية المعاصرة، مع الإمساك بقوة على منطلقات الأخوة، والتشديد على روابط الدم، والذي لا يمكن أن يَضحى ماءً عند أي لحظة من لحظات حاضرات أيامنا.
قمة العلا التي احتضنتها المملكة برعاية خادم الحرمين وجهود ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، عكست حقيقة قائمة وقادمة منذ زمان وزمانين، أنَّها السعودية الحاضنة الأُم على مدى العقود الماضية ومنذ ولادة مجلس التعاون الخليجي، الرافعة لراية الوحدة، حجر الزاوية الذي يجتمع عنده المفترقون، ويقترب على القرب منه المتباعدون، والمواقف عديدة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن ذكرها.
ولعلَّ نجاح قمة العلا لدليل راسخ على الأهمية التي أولاها الملك سلمان لإعادة تمتين وشائج القربى والأخوة، وبلورة رؤى استشرافية تقدمية تفتح أبواب التعاون، وتخلّف فرص بناء الجسور وهدم الجدران، وقد يُنظر إلى هذه جميعاً بوصفها الآليات أو الخطوات التكتيكية، فيما تظل رغبة قلب الملك العروبي الأصلية تهفو إلى استراتيجية القلب الواحد، لا سيما في مواجهة الأخطار التي تتهدَّد دول المنطقة وبقية الشرق الأوسط من كيان لا يغيب عن عين الجميع، ولا يفارق خاطر القاصي والداني.
أظهرت قمة العلا أنَّ الملك سلمان يتمتَّع بأبوة كبيرة حانية صادقة، وتاريخه الطويل يدعمه ويزخمه، ولهذا جاءت استجابة دول مجلس التعاون وجمهورية مصر العربية لتلبية رغبته الصادقة في استنقاذ حبل المودات، وفرص التعاون الخلاق في المستقبل، والقفز فوق العقبات الكأداء التي طفت على سطح الأحداث خلال الأعوام الماضية، وقد ارتضى الجميع حكمته، وقدّر الكل أبوّته، ورفع الحضور رغباته إلى مقام الأوامر الأبوية التي لا تُصد ولا تُرد.
والشاهد أنَّنا، وإنْ كنا نتحدث عن سلمان الحجر المكين في عيون الأشقاء العرب والخليجيين، فإنَّه يتعيَّن علينا أنْ نذكر بكل الخير الدور الحداثي التنويري والقيادي لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهناك الكثير من المؤشرات التي أفرزتها قمة العلا ودوره التاريخي فيها.
يمكن القطع بدايةً بأنَّ إطلاق اسمي راحلين كبيرين، السلطان قابوس والأمير صباح الأحمد (رحمهما الله)، لدليل كافٍ على فكر الأصالة المتجذرة في مسيرة صاحب «رؤية 2030» الأمير الشاب الذي يدرك المنطلق القرآني البديع: الاتحاد قوة، ويمضي في مسيرة الأمر الإلهي «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا».
الذين تابعوا كلمة ولي العهد رسخ لديهم أنَّهم أمام جيل سعودي معاصر، قادر على الخوض في غمار التحديات بأريحية عروبية صادقة، وبفهم عملياتي رصين، وعنده، وله في الحق ألف حق، أنَّ اللحظة الآنية تحتاج إلى الجهود المتكاتفة للنهوض بالمنطقة لمستقبل بهيج، ومجابهة التحديات المحيطة بدول الخليج العربي، وفي المقدمة منها محور الشر الإيراني الذي يمدُّ أطرافه حول العالم العربي، ويغازل البعيدين وراء المحيط.
كلمة الأمير محمد بن سلمان، في قمة العلا شخَّص فيها دوره التصالحي والتسامحي، وبيَّن فيها أنَّه القائد الشاب الذي أدرك حقيقة مؤكدة: طرح القضايا المصيرية يبدأ من الذات لا من الآخرين، ولهذا فإنَّ رؤيته السياسية وآفاقه التنموية إنَّما تعبّر عن مكنونات الذات السعودية والخليجية والعربية.
وهذا الدرب الرفيع والإيجابي يخلق واقعاً أكثر رحابة، واقعاً يقفز فوق أحجار التكلس والجمود الراديكالي السياسي، إلى رحابة الإبستمولوجيا التي تنهض بالداخل السعودي والخليجي، وتخلق جنة عدن من جديد في «نيوم» بما يعود على المنطقة العربية عموماً بالخير والنماء.
في قمة العلا نجحت المملكة عبر الحكمة النيّرة ممثلةً في خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي حافظ طويلاً على هذا الكيان الاستراتيجي عبر العقود الماضية من ناحية، ومن خلال حيوية ونهضة الشباب المبدع المتجلي في الأمير محمد، ولي العهد، من جانب آخر.
إنَّها مملكة الأصالة والمعاصرة والأخوة، أمس واليوم، وإلى ما شاء الله.