بقلم : إميل أمين
ما هو التهديد الأكبر والأخطر المحدق بدولة إسرائيل في المدى الزمني القريب والمنظور؟
حكماً إذا طرح التساؤل المتقدم على جمهور عرمرم من الباحثين والمفكرين السياسيين، بل رجالات الإستراتيجية الثقات، سيكون الجواب ولا شك، هو البرنامج النووي الإيراني، لا سيما في ضوء تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي يفهم منها المرء أن تل أبيب لن تتقيد بأي اتفاق يجمع واشنطن وطهران مستقبلاً.
الجواب السابق من الصحة بدرجة ما، لكن المفأجاة الكبرى، أنه ليس كل الصحة، فهناك رؤى وتصورات لمسؤولين إسرائيليين كبار، موصولة بزوال إسرائيل، بعيدة كل البعد عن برامج إيران النووية والصاروخية، أو حتى السيبرانية.. ماذا عن ذلك؟
في الأسبوع الأخير من شهر فبراير (شباط ) الجاري، كانت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية تنشر مقالاً ليوفال ديسكين، الرئيس السابق لجهاز الأمن الإسرائيلي العام «الشاباك»، جاء عنوانه صادماً إلى أبعد حد ومد للإسرائيليين في الداخل والخارج، فقد كتب يقول «إسرائيل لن تبقى للجيل القادم».
يعن للقارئ أن يتوقف أول الأمر عند لفظة جيل، وهو باختصار غير مخل، مرحلة التعاقب الطبيعية من أب إلى ابن، ويعرف تقليدياً على أنه متوسط الفترة الزمنية بين ولادة الآباء وولادة أبنائهم، ومدة الجيل من 23 إلى 30 سنة، وفي علم الأحياء تبقى عملية نقل الكائنات الحية لسماتها الوراثية من جيل إلى جيل، تعرف بالتطور.
ديسكين يأخذ الجميع إلى منطقة بعيدة جداً، ذلك أنه وفيما تسعى إسرائيل لتوسيع مشروعها النووي في ديمونة، وتمضي جاهدة للحصول على طائرات إف - 35، فخر الصناعات الجوية الأميركية، ناهيك عن الغواصات الألمانية التي تشكل الضلع الثالث من أضلاع الدرع النووية الإسرائيلية، بعد الرؤوس النووية المحملة على الصواريخ الباليستية، والقنابل الموضوعة على الطائرات جواً، يخلص الكاتب إلى أن معظم العبء الاقتصادي والعسكري في إسرائيل سيتحمله قريباً 30% فقط من الإسرائيليين.
لا يزال حديث ديسكين غير واضح، حتى هذه اللحظة، ولهذا ربما طرح من عندياته التساؤل الجوهري الذي يربط القارئ بفكرة زوال إسرائيل، والتي لم يعد أحد من جيران إسرائيل العرب يتحدث عنها، وبخاصة في ظل زمن السلام الإبراهيمي الماضي قدماً.
من عند ما خلفته جائحة (كوفيد - 19) المستجد، يفاجئ ديسكين قراءه بالسؤال: «هل تتمتع إسرائيل بالتماسك الاجتماعي والمرونة الاقتصادية والقوة العسكرية والأمنية التي سيضمن وجودها الجيل القادم؟
الرئيس السابق للشاباك يتحدث عن الاتجاهات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية التي باتت بالفعل تغير جوهر إسرائيل، وتستطيع أن تعرض وجودها للخطر خلال جيل واحد.
يلفت الرجل الانتباه إلى إشكالية كارثية تحكمها قاعدة راسخة منذ ألفي سنة.. كل بيت ينقسم على ذاته يخرب، وكل مملكة تنقسم على ذاتها لا تثبت... ويترجم الأمر عبر الإشارة إلى زيادة الانقسام بين الإسرائيليين، فقد أضحى التشارع والتنازع بين اليمين واليسار، مهيمناً أكثر بكثير من الخلاف بين اليهود والعرب، كما أن انعدام الثقة في أنظمة الحكم آخذ في الازدياد، والفساد ينتشر في الحكومة، والتضامن الاجتماعي ضعيف.
يستخدم ديسكين عبارات قوية في مقاله، إذ يشير إلى إسرائيل بوصفها القوة الإقليمية غير القادرة على السيطرة على العديد من المناطق، والقائل ينطلق من مرتكزات رقمية مثيرة للانتباه صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء في إسرائيل، وعنده أنه خلال 40 سنة سيكون نصف سكان إسرائيل من المتدينين والفلسطينيين... ماذا يعني التصنيف السابق؟
يمكن للمرء لا سيما إذا كان من أبناء العرب، أن يدرك إشارة الرئيس السابق لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي لقضية الرحم الفلسطيني، فعند لحظة زمنية بعينها سوف يزداد عدد السكان العرب في إسرائيل عن نظرائهم من اليهود، رغم كل التهجير القسري الذي تمارسه إسرائيل ضد سكانها العرب.
غير أن إشكالية المتدينين اليهود، تبقى الهول الأعظم الذي ينتظر إسرائيل عما قريب، وبخاصة مع تنامي الجماعات اليمينية المتطرفة، مثل «لهفاه»، تلك التي تنادي بالتخلي عن القوانين والتشريعات المدنية، والرجوع للإحتكام إلى قوانين أسفار موسى الواردة في العهد القديم، والتخلص من القيادات السياسية الإسرائيلية العلمانية.
يتوقف ديسكين عند تيار اليهود الحريديم، تلك الجماعة الأصولية اليهودية، التي باتت تشكل عبئاً على الدولة الإسرائيلية، لا سيما أنهم ينظرون إلى إسرائيل على أنها في طريقها للخسارة.
قبل بضعة أسابيع التقطت الكاميرات صوراً لبضعة آلاف من اليهود الحريديم، يقومون بتشييع جنازة حاخام بارز من خاصتهم في القدس، منتهكين بذلك الحظر الذي تفرضه الحكومة الإسرائيلية على التجمعات خلال جائحة «كورونا».
ما يقلق ديسكين بشكل كبير، في بعض استطلاعات الرأي، ومنها ما أصدره مركز «أكورد»، التابع للجامعة العبرية منذ أسبوعين، هو درجة الكراهية التي يحملها الحريديم للعرب ولغيرهم من اليهود العلمانيين، فقد جاءت نتائج الاستطلاع لتبين أن نصف الحريديم والمتدينين القوميين باتوا يعبرون صراحة عن كراهيتهم للعرب، ويؤيدون دعوات تجريدهم من الجنسية الإسرائيلية.
وعلى جانب آخر أظهر الاستطلاع أن 23% من الإسرائيليين العلمانيين، يحملون مشاعر الكراهية لليهود الحريديم، ويعتبرونهم مصدراً من مصادر انتشار «كورونا».
لا يوفر ديسكين أن يرسم صورة قاتمة لإسرائيل في نهاية مقاله، صورة لنسيج اجتماعي متصارع، وطبقات حضارية غير مرتاحة بعضها إلى بعض، فبجانب الحريديم هناك قبائل متعددة الهوية، على حد وصفه، علمانية تقليدية، دينية متشددة، مزراحيم وإشكنازيم، والطبقة الوسطى، والأثرياء والمحرومون والمهمشون، ممن يجدون صعوبة بتحمل العبء الزائد نتيجة عدم مشاركة اليهود الأرثوذكس في الاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي والخدمة العسكرية.
ما الذي فعله يوفال ديسكين على وجه الدقة عبر مقاله المثير والخطير الذي يجب أن يقرأ بعناية في عالمنا العربي؟
حكماً أنه أطلق بوق القرن، ذاك الذي درج بنو إسرائيل قديماً على النفخ فيه في أعيادهم الروحية، ما يستدعي الانتباه الكامل في الداخل الإسرائيلي لأزمات بعيدة عن النزاع الفلسطيني، أو حتى المواجهة أو المجابهة النووية مع إيران.
مقال ديسكين يؤكد أن حلاً عادلاً وشاملاً للقضية الفلسطينية من جانب، ولبقية الملفات الخلافية مع العالم العربي، يمكن أن يرفع من على كاهل الأجيال الإسرائيلية القادمة جزءاً كبيراً من المخاوف التي رسمها ديسكين.
الخلاصة... السلام هو الحل.