بقلم : إميل أمين
على سبيل المصادفة؛ قدرية كانت أم موضوعية، وربما هرباً من أخبار «كورونا» الفاجعة، شاهد الداعي لكم بطول العمر، عملاً فنياً أميركياً مثيراً قبل بضعة أيام، يستحق التوقف أمامه طويلاً؛ أميركياً وعالمياً، لا سيما ونحن في خضم هذه الظروف القلقة غير المسبوقة منذ مائة عام.
العمل عبارة عن فيلم سينمائي أميركي من إنتاج العام الحالي، يحمل اسم «Operation Christmas Drop» الذي يعني «عملية حمولة أعياد الميلاد».
بطولة الفيلم شراكة بين عدد من الممثلين الأميركيين، الذين أجادوا تحريك عقول المشاهدين وراء مشاهد العمل الفني، وكأن الأمر برمته كان يبغي إسقاطاً ما؛ وفي هذا التوقيت الذي تعاني فيه أميركا من التشظي والانقسام في الداخل، وتبهت صورتها في الخارج.
باختصار غير مخل؛ تدور القصة حول قاعدة عسكرية أميركية في المحيط الهادي، ولأن هناك مناقشات في الكونغرس تسعى لتوفير النفقات، لذا؛ فإنه يتوجب إغلاق ثلاث قواعد في المنطقة؛ منها تلك القاعدة التي يديرها بطل الفيلم «الكابتن طيار أندرو جانتز»، الذي يقوم بدوره الممثل الأميركي ألكسندر لودفيج.
عضو الكونغرس المكلفة إغلاق القاعدة، والتي تقوم بدورها الممثلة الأميركية فيرجينيا ماديسون، تحت اسم برادفورد، تكلف مساعدتها القانونية، إريكا ميلر، وتلعب دورها الممثلة سمراء البشرة ذات الابتسامة الساحرة كات غراهام، الذهاب إلى هناك وإعداد تقرير عن الأسباب القانونية لإغلاق هذه القاعدة.
ضمن الأسباب التي راجت في واشنطن لإنهاء عمل العسكريين الأميركيين هناك، ما يقوم به رجالات القاعدة بقيادة الكابتن أندرو ويتم فيه استغلال المعدات العسكرية الأميركية فيما لا يخدم أغراض القوات المسلحة الأميركية.
تصل المساعِدة القانونية مهمومة ومحمومة بشكل سريع للتفتيش والتقييم، وهناك تفاجأ بما يقوم به قائد القاعدة ورجاله من تحضير شحنات كبيرة من الأغذية والأدوية والهدايا، ويتم إسقاطها عشية أعياد الميلاد على نحو 56 جزيرة نائية يسكنها مواطنون بسطاء فقراء، تدخل عليهم البهجة والسعادة.
إريكا لا تزال تحتفظ بعقلية البيروقراطية الأميركية المعاصرة، وجل ما يهمها هو الجانب المادي من الأمر فقط، بمعنى إهدار الجهود البشرية، واستخدام الطائرات الحربية في أغراض غير مشروعة، الأمر الذي يتحمله دافع الضرائب الأميركي، والناخب الذي صوت لعضو الكونغرس برادفورد، وقادها إلى الكونغرس.
أندرو جانتز يحاول إقناعها بأن الجهود كافة تطوعية تبرعية، بمعنى أن المجندين يقومون بتعبئة هذه الشحنات في أوقات فراغهم، وما فيها من مساهمات شخصية كافة من دخلهم، أما الطائرات فإن طلعاتها تعد من قبيل أفضل تدريب على الطيران بحمولات ثقيلة على ارتفاعات منخفضة، مما يعني أن إلقاء الشحنات أمر يفيد التدريب العسكري ولا يضر.
يصعب على الحديث النظري أن يقنع أحداً، ولهذا يصطحبها الكابتن طيب القلب إلى إحدى تلك الجزر لتقضي يوماً مع سكان المكان، لتكتشف هناك المعنى والمبنى لما قاله المفكر الأميركي الكبير وأحد الآباء المؤسسين، بنجامين فرنكلين، من أن «صنع الخير للبشر، هو الأمر الأكثر قبولاً عند الله»، وهناك تتبرع بحقيبتها الخاصة وكل ما فيها لأطفال الجزيرة، وتعود إلى القاعدة بمفهوم مغاير للفكر النمطي الأميركي المرجح الحجر على البشر.
على حين غرة تهب عاصفة تقود عضو الكونغرس للهبوط في القاعدة عينها، لتثور على مساعدتها التي تراخت في عملها وتأمرها بالعودة من فورها إلى العاصمة الأميركية، لكن الأخيرة ترفض الرجوع لأميركا قبل إنهاء مهمتها، ووسط ذروة الأحداث تتطوع زوجة قائد القاعدة باصطحاب عضو الكونغرس معها على طائرة تقوم بإلقاء حمولة أعياد الميلاد لترى بعينيها.
حين يعود الجميع، تبدو برادفورد مندهشة، وتتفوه بكلام كفيل بتغيير وجه أميركا؛ إذ أشارت إلى أنها رأت بأم عينيها كيف أن الجيش الأميركي يمكن أن يكون قوة أميركية خيرة ومغيرة، وقد ذكرتها مساعدتها من قبل بأن ما يجري هنا هو جزء من وعود حملتها الانتخابية بأن تجعل أميركا والعالم أفضل.
هل يجيء هذا الفيلم الذي أنتجته شبكة «نتفليكس»، مصادفة أيضاً أم إنه رسالة مقصودة على عتبات إدارة أميركية جديدة، تستهل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وبعد أربع سنوات من اضطراب العلاقات الأميركية مع أرجاء واسعة من العالم؟
الأسئلة أهم من الإجابات، والسؤال يقودنا إلى علامة استفهام أخرى: لماذا كانت أميركا بعد الحرب العالمية الثانية محبوبة ومرغوبة حول العالم، واليوم تبدو دول العالم أقل توقاً إلى الوقوف مع أميركا، حتى الأصدقاء والحلفاء تبرموا منها كثيراً؟
تعرف أميركا أنها الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها، أو هكذا يروّج لها، وربما كان هذا صحيحاً لو كانت ديمقراطيتها لا تركز على احتلال العالم، بل أن تكون هي محور تجديده.
تبلغ موازنة الدفاع الأميركية للعام الحالي 740 مليار دولار، وللمرء أن يغمض عينيه ويتخيل لحظة يوتوبيّة يمضي فيها الأميركيون إلى تجيير ثلاثة أرباع تريليون دولار لمكافحة وباء «كورونا» وإسقاط حمولات من اللقاح عشية أعياد الميلاد لاستنقاذ العالم.
تُرى أي تأثير يمكن أن تتركه هذه المبادرة على العالم، وكيف لها أن تجعل من أميركا بالفعل «أسطورة القدر الواضح» بحسب جون إل. أو. سوليفان، والمدينة فوق جبل «كما رآها» جون وينثروب.
قاد أبراهام لنكولن بلداً منقسماً إلى الاتحاد من جديد عبر رؤيته الإنسانية، وعلى جو بايدن أن يقود أميركا متشظية، وأن يمزج بين الواقعية والمثالية، وأن يتجنب الرؤية الضيقة والنهج الأميركي الأحادي غير المبالي بالآخرين.
هل تضيء واشنطن تل العالم المظلم من جديد عشية أعياد الميلاد؟