بقلم : إميل أمين
حين تسيدت الولايات المتحدة العالم عقب انتهاء الحرب الباردة في أوائل تسعينات القرن الماضي، أعلن الرئيس بوش الأب أن نظاماً عالمياً جديداً أحادي القطبية قد استعلن، وعلى الرغم من أن التجربة الإمبراطورية الأميركية فاقت منعة وقوة نظيرتها الرومانية، فإنه من الغريب والمثير وما يستدعي علماء الاجتماع والعلوم السياسية تدارسه، أنها لم يطل بها المقام منفردة بمقدرات الكون لعقدين، في حين دانت البشرية للرومان قروناً عدة وليس عقوداً.
طوال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تساءل الكثيرون «هل انتهى عصر الهيمنة الأميركية المنفردة، وحان الوقت لظهور أقطاب دولية أخرى تعدّل وتبدّل من الخريطة الجيواستراتيجية التقليدية؟».
كثرت الاجتهادات في واقع الحال، وتباينت الردود، ولا سيما في الداخل الأميركي، وتحدثت قامات مثل ريتشارد هاس، أحد أهم المنظرين للسياسة الأميركية الخارجية، عام 2008 وعبر مجلة «الفورين بوليسي» ذائعة الصيت بالقول إننا مقبلون على عالم متعدد الأقطاب، وليس أحادي القطبية.
كان من الواضح أن العالم تغير بالفعل، لكن لم يكن أحد من الدائرة الحضارية الغربية قد تحدث بصراحة عن نهاية الهيمنة الغربية على العالم وبداية مرحلة مغايرة من التوازنات الدولية.
قبل بضعة أيام وخلال لقائه السنوي مع سفراء بلاده العائدين إلى مهامهم عقب انتهاء إجازة الصيف، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يصارح أميركا وأوروبا بحقيقة جلية عن قلب العالم الذي تحرك، وعن زمن الحصاد الذي حان، وعن عالم جديد يولد من الرحم القديم، حتى وإن لم يكن على هوى أصحاب الدوائر الإنسانوية والعلمية السابقة.
يقرّ الرئيس الفرنسي بأن الغرب يعيش بلا شك نهاية زمن الهيمنة على البسيطة برمتها، بعد أن اعتادوا على الإمساك بزمام الأمور منذ القرن الثامن عشر، وذلك حين كانت الهيمنة فرنسية في أول الأمر بفضل عصر الأنوار، واستمرت السيادة والريادة إلى أن وصلت إلى بريطانيا من جراء ثورتها الصناعية الكبرى، إلى أن وصلت إلى الولايات المتحدة التي عرفت بقوتها الاقتصادية وثروتها العلمية والتكنولوجية من الأرض إلى الفضاء.
ما الذي تغير وبدّل الأوضاع وغيّر الطباع؟
غالباً أنها الأفكار، محركات التاريخ، ومشاعل دروب الإنسانية، حين تشتعل تنير لحامليها، وحين تنطفئ تخبو حظوظ تابعيها، هذا ما يمكن للمرء استنباطه من حديث ماكرون، الذي أشار إلى أن أخطاء الغربيين هي التي فتحت الباب واسعاً للروس والصينيين للدخول إلى عالم الاقتصاد والنجاحات الكبيرة؛ ما مكّن لهم من عودة جديدة إلى العالم القديم، فروسيا تجد مرة أخرى لها موطئ قدم في أفريقيا، والصين تنافسها بقوة الردع النقدي وليس النووي، بينما حصص الأوروبيين والأميركيين في القارة السمراء على سبيل المثال تتراجع.
تصريحات ماكرون الأخيرة ضرب من ضروب المكاشفة والمصارحة غير المسبوقة، ولا سيما أنه يلفت إلى حقيقة الصراعات الخفية والظاهرة على الصعيد الدولي: «الصين وروسيا اكتسبتا قدرة في العالم لأن فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة كانت ضعيفة... أعلنّا خطوطاً حمراء، لكنهما تجاوزتاها ولم نرد، وعلمتا ذلك».
حديث ماكرون الذي يجيء بعد أسابيع قليلة على زيارة الرئيس بوتين إلى فرنسا يطرح علامة استفهام لها وجاهتها في الوقت الحاضر: «هل حان أوان ولادة أوراسيا، كحاجة جوهرية إلى مواجهة التغيرات المثيرة والمخيفة التي باتت صحوة التنين الصيني تمثلها بالنسبة للأوروبيين وربما للروس أيضاً؟».
إنه حلم شارل ديغول يكاد يغازل فؤاد ماكرون وعقله من جديد، وحدة جغرافية وديموغرافية من الأطلسي إلى جبال الأورال، وحدة يمكن بدرجة ما أن تكون بديلاً للتفرد الأميركي وهيمنة العم سام منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة.
جزء من التفكير الأوروبي الأرسطي في قاعدته الفكرية ينطلق من براغماتية آنية، إن جاز التعبير، تأخذ في حساباتها المخاوف من التعاظم الصيني، القريب من أوروبا، بل المهدد لروسيا دون مواراة أو مداراة.
رؤية ماكرون وتصريحاته الأخيرة زلزال يضرب أوروبا، ويطلق تاريخاً جديداً لما بعد سقوط حائط برلين، والرجل يقرّ ويعترف بأن الجانب الأوروبي ومنذ توحيد أوروبا أسس لعلاقة مع روسيا قائمة على عدم الثقة، في حين أن روسيا في أوروبا.
من الواضح أننا سنشهد طرحاً أوروبياً جديداً الأيام القادمة، طرحاً أوراسياً يرى أنه لا يمكن التأسيس للمشروع الأوروبي، ابن الحضارة الغربية التي يؤمن بها الأوروبيون، من دون أن يعيدوا التفكير بعلاقتهم مع روسيا، بل إن التفكير الجديد يدرك أن لروسيا بدورها مصلحة في علاقة جذرية ما مع الأوروبيين، فروسيا ضعيفة في مواجهة الصين أمر ليس محبوباً أو مرغوباً.
على الأبواب، يمكننا أن ننتظر استطلاعاً استراتيجياً لأوراسيا الجديدة وإن لم تأخذ الاسم، بل الأهم هو المضمون، ضمن رؤية وشروط معينة، وإلا ستبقى أوروبا مسرحاً لمعركة استراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا، بحسب ماكرون.
هل ستضحى أوراسيا بديلاً عن الناتو في نظام ماكرون العالمي الجديد، وكيف سيكون الرد الأميركي والصيني؟
إلى قراءة قادمة.