بقلم : إميل أمين
أظهرت مشاركة الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، في أعمال قمة العشرين في أوساكا، الأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها السعودية على الصعيد الدولي، تلك التي تبدت في شهادة الكثيرين الذين راقبوا أعمال القمة، وشاهدوا اللقاءات التي شارك فيها ولي العهد، والترحيب الدولي، عطفاً على الرؤى الاستشرافية التي يتحدث عنها الجميع، والتي تنتظر المملكة التي ستستضيف قمة العشرين العام المقبل.
عقب القمة بدأ الأمير محمد بن سلمان زيارة دولة إلى اليابان، ذلك البلد العجيب والمثير، صاحب الأعماق التاريخية، وباني المجد والحضارة رغم الصعوبات كافة التي تقاطعت معها سبل نهضته.
اليابان، وبحسب دبلوماسييها ومسؤوليها الذين التقاهم الأمير محمد، بدءاً من الإمبراطور الياباني ومروراً برئيس الوزراء آبي، وصولاً إلى منتسبيها كافة، أكدوا أن هناك عزماً وتصميماً كبيرين على بناء علاقات متميزة مع المملكة، ولا سيما أن «رؤية 2030» تعزز ظهور المملكة بوجه مشرق للعالم، والتعبير هنا لسفير اليابان لدى المملكة العربية السعودية، تسوكاسا ايمور.
السؤال الجوهري في هذا المقام: «هل تعزز العلاقات وتوطيدها مع طوكيو نهضة المملكة الحديثة التي يرعاها الأمير محمد بن سلمان، وإذا كان ذلك كذلك فهل الأمر قاصر على الاستفادة من وضع اليابان القائم والقادم فقط، أم أن المشهد يمتد إلى استلهام روح عصر الميجي الياباني الأشهر؟
لعل المتابعين للشأن الياباني في الأعوام الأخيرة يدركون أن هناك رغبة عارمة عند اليابانيين لإعادة كتابة دستور بلادهم، ونفض الغبار الذي لصق بأرجلهم من جراء الحرب العالمية الثانية وتبعاتها، وما لحق باليابان من تضييق لم يعد مقبولاً عدلاً أو عقلاً من الأجيال المعاصرة، الأمر الذي يعني أن اليابان على موعد مع انطلاقة كبرى حول العالم، ومشاركة عسكرية وسياسية تعود باليابانيين إلى أزمنة الإمبراطورية القديمة، حيث بحريتها تجوب أرجاء العالم، وجنودها يشاركون في الفعاليات كافة من دون سدود أو قيود.
الانفتاح الياباني على العالم يعني ضمن أمور كثيرة أن هناك فرصاً كبيرة لتعظيم الاستفادة من مكتسبات اليابان ونجاحاتها، والمملكة بما لها من علاقات تاريخية مع اليابان، ومن علاقات اقتصادية وسياسية خلاقة، مرشحة لأن تكون في مقدمة الدول التي تسعى اليابان إلى تعميق شراكاتها الاستراتيجية الناجحة معها في الحال والاستقبال.
ولعل المتابع لتصريحات المسؤولين اليابانيين سواء قبل زيارة الدولة للأمير محمد بن سلمان، أو بعدها، يلحظ النوايا اليابانية من أجل بناء مرحلة من مراحل التعاون: «كشركاء لا يستغني أحدهما عن الآخر».
شيء ما يتشابه دون غلو في الحديث، بين النهضة اليابانية التي بدأت في عام 1868، وبين «رؤية 2030» لولي العهد وتوجهاته لتأسيس مرحلة مغايرة في تاريخ المملكة العربية السعودية الحديثة.
كانت أواخر القرن التاسع عشر هي فترة حكم الإمبراطور الياباني موتسو – هيتو، الذي بدأ حكمه في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1852، وقد كان شاباً ذكياً متفتحاً وسُمي عهده «الميجي»، أي عهد الحكم المستنير.
كان جوهر عهد الميجي هو التعليم الجيد المنفتح وغير المنغلق؛ إذ تقول الفقرة الخامسة من العهد الميجي الذي يعد الأساس لإرساء قواعد نهضة اليابان الحديثة إنه «سوف يجري العمل على جمع المعارف من شتى أنحاء العالم، وعلى هذا النحو سوف تترسخ الإمبراطورية على أسس متينة».
أحد أهم أسرار نهضة اليابان الحديثة والتي يمكن استلهام روحها في حاضرات أيامنا، كامن ضمن أسرار الشخصية اليابانية، فالإنسان الياباني يحترم الوقت ويقدّر الجهد، ويعشق العمل مهما تكبد من مشاق، وعلى هذا النحو يبقى المجتمع الياباني مجتمعاً جماعياً تآلفياً يحب العمل والإيناس، ويبغض الوحدة والانفرادية؛ لذلك نشأت أخلاق تحبذ الحياة الجماعية وتنفر من التوجهات الفردية.
مدهش أمر اليابان التي تمثلت نهضة الغرب التقنية، من غير أن تخلف وراءها تراثها الشرقي الإنساني والفلسفي؛ ما جعلها تغزو أسواق الغرب بعبقرية لا مثيل لها، فانتصر العقل الياباني على التخلف والهزيمة، وتحولت اليابان إلى نمر من النمور الآسيوية القادرة على المنافسة العالمية بتمكن واقتدار.
درة تاج «العهد الميجي» تتجلى في النظرة إلى عامة الشعب بوصفهم الهدف المنشود إسعاده، والعمل على تحقيق أمانيهم، عبر قيم العدالة والمساواة التي تقتضيها الفطرة الإنسانية.
يستطيع القارئ أن يجد صوراً متشابهة كثيرة بين مرحلة النهضة اليابانية المشار إليها، والحلم السعودي المنشود في الأوقات الراهنة، حلم ترقي البشر وتسخير الحجر لخدمته.
طريق اليابان مفروش بالإبداع عوضاً عن الاتباع، ولا سيما على الصعيدين الاقتصادي والصناعي؛ فاليابان التي لا تمتلك أي مقومات من الموارد الأولية، لديها من الصناعات التكميلية والبتروكيماوية، ما يمكنها من أن ترفد خطط النهضة السعودية الحديثة للتحول من اقتصاد ريعي يعتمد على مداخيل النفط، إلى اقتصاد متنوع قادر على اقتناص الفرص في الوقت الخلاق.
الذين تابعوا زيارة الأمير محمد بن سلمان توقفوا كثيراً عند اهتمامه بقضية التعاون الأكاديمي بين البلدين؛ فالمعرفة هي جوهر النجاحات، ولهذا كانت نقاشاته مع البروفسور ماكوتو جونو كامي، رئيس جامعة طوكيو، من أجل بناء الكوادر وتوطين المهارات السعودية في المجالات التي تميزت فيها اليابان علمياً وتقنياً.
يكتب المفكر الياباني ساكاتاني شيروشي مادحاً روح اليابان في السعي والتحدي، وواصفاً أحوال اليابانيين اليومية بالقول: «كما لو وقع إعصار لسفينة في عرض البحر، مع ذلك مضى كل إلى عمله، فاستمر الراقصون والعازفون في الرقص والعزف، ولاعبو الأكروبات في أداء حركاتهم، والمثقفون في إلقاء محاضراتهم».
إنه عشق التحدي والانتصار على الألم بالعمل، وهذه هي دروس «عهد الميجي» البديعة.