بقلم : أمينة شفيق
في البداية لابد من الاعتراف بأن تيارا سياسيا شعبويا يجتاح عددا من الدول الغربية التي كانت تتبع نظاما ديمقراطيا ليبراليا راسخا، أو ما كنا نعتقد انه نظام راسخ. نظام يسمح لكل البشر الحاملين لهويته الوطنية ولغير هويته بالحق في التعبير والتنظيم والانتماء. نظام يبشرون به ويحكمون على الآخرين بمقاييسه ومعاييره التي وضعوها. من هذه البلدان الغربية تتقدم الولايات المتحدة الأمريكية كحالة خاصة بسبب ظروفها الخاصة جدا. فبعد أن عشنا قرنا ويزيد، من سيادة قيم الحالة الديمقراطية الليبرالية التي ترسخت في عدد من البلدان وفي مقدمتها قطعا، البلدان الاوروبية المتقدمة صناعيا، نجد أنفسنا أمام صعود تيار سياسي ينجح بغالبية اصوات صناديق الانتخابات الحرة ويتنازل اراديا عن قيم إنسانية عالمية، هي صلب الديمقراطية الليبرالية، التي لا تنحاز للدين أو الجنس أو الموقع الجغرافي. بل بات هذا التيار يتمسك بعكسها.
يمكن القول إنه تيار يخرج على القواعد التي وضعتها الديمقراطية الليبرالية. والسبب الذي يتذرعون به هو الهجرة البشرية التي حلت عليهم والتي تهدد هويتهم وثقافتهم وعاداتهم. وسط هذه التغييرات الكبيرة تظهر الولايات المتحدة الامريكية كحالة خاصة جدا. حالة يصيغها الرئيس ترامب الجالس على عرش البيت الأبيض. يشعل الرئيس ترامب الحرائق الصغيرة حيثما ذهب أو توجه دون أن يصل بنا او يشير إلى السبب او النتائج لتلك الحرائق. وأقل ما يمكن ان توصف به تلك الحرائق الصغيرة التي تتكرر كل يوم أنها تحمل في طبيعتها حالة من اللاتوقع. فالرئيس ترامب رئيس لدولة كبيرة محورية في السياسات العالمية، ولكننا لا يمكن أن نتوقع فعله الثاني او الثالث، كما اننا لم نتوقع في الأصل فعله الاول.
جاء الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض من خارج المؤسسات المجتمعية أو الأحزاب ومنتميا لذات التيار الشعبوي. جاء بأفكاره الخاصة من قطاع المقاولات والتي تلتقي مع أفكار الرجل الأمريكي العادي الذي لا يشغله في حياته إلا دخله وبيته وسيارته وأقساطه المستحقة. المواطن الذي لا يهمه شئون الشرق الأوسط أو الأدنى. وقد لا يكون عارفا بأسماء الدول التي تحيطه من الشمال او من الجنوب. ومن هنا التقى هذا المواطن مع شعار «أمريكا اولا» بما يعني «المواطن الامريكي اولا». لذا كسر ترامب كل القواعد السياسية التي نعرفها والتي تمثل خطورة على العلاقات بين الدول. فعندما خرج ترامب عن اتفاقية باريس للمناخ ومن الاتفاق النووى المبرم مع إيران فإنه وضع مبدأ جديدا يشير إلى ان توقيع أي رئيس دولة على أي اتفاقية لا يعني استمرارها، لان للرئيس التالي له ان يخرج عليها ويسحب توقيع دولته. اذا لا ضمان لاستمرارية اي مفاوضات أو اتفاقيات.
والخطورة في الحالة الأمريكية انها تأتي وتطبق في البلد الذي يرى نفسه أقوى وأكبر البلدان نفوذا وقوة. كما ان الخطورة في أن هذا التوجه الذي يتبلور خارج المؤسسات والاحزاب يلقي استحسانا في القواعد الشعبية التي جاءت بترامب إلى البيت الأبيض. وهو الاستحسان الذي يترسخ نتيجة لنجاح السياسة الاقتصادية التي يتبعها ترامب خاصة في تلك المناطق التي استمرت فريسة للخراب الاقتصادي نتيجة لنقل أو لهجرة الاستثمارات ووحدات العمل الصناعية الكبرى الامريكية منها إلى خارج الحدود إلى بلدان شرق آسيا أو بلدان أوروبا الشرقية رافعة رايات «العالم الذي بات قرية صغيرة».. انخفضت البطالة في الولايات المتحدة الامريكية إلى أقل من نسبة 4 % وهي ادنى نسبة تصل اليها سوق العمل الامريكية منذ عدة عقود وكذلك منذ عدة ولايات رئاسية. وتأتي خطورته في أن الرجل الأبيض الأمريكي يتوقع ان يفقد غالبيته العددية السائدة عام 2050 لصالح الأقليات الحالية من الملونين واللاتين الزاحفين من الجنوب اللاتيني.
كما أنه البلد الذي تشكل غالبية مجموعات مواطنيه من المهاجرين الأوروبيين واللاتين أي من مواطني دول امريكا اللاتينية. فالرئيس ترامب شخصيا ليس من السكان الأصليين الأمريكيين وإنما هو ابن سلالة أسرة هاجرت من غرب أوروبا إلى الولايات المتحدة بحثا عن العمل وفتحا لقارة جديدة. فهو ضمن الخمسين مليون أوروبي الذين تركوا أوروبا إلى القارة الجديدة كمهاجرين باحثين عن الثراء والأرض والذهب على حساب السكان الأصليين.
هذه الحالة الرئاسية الأمريكية اتسعت حتى طالت ما يخص الوضع الداخلي. فعادة ما يساعد الاستقرار في تطبيق القوانين على الاستقرار المجتمعي العام الذي يساعد على التطوير وتحقيق الضمان للمستفيدين من هذا القانون أو ذاك. فعندما دخل الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض أثار اول ما أثار مشروع «أوباما كير» أو ما تم الاتفاق عليه بين الحزبين من بنود ليخرج قانون التأمين الصحي كما خرج وطبق فترة ولاية باراك أوباما. كما اتسعت حالة اللااستقرار في عهد ترامب حتى طالت اختياراته من المسئولين في إدارته حتى لو كانوا من النشطاء في حملته الانتخابية.
عندما نتتبع خطوات ترامب فإننا قد نخرج بانطباع أنه يسعي في كل خطوة منه ليس فقط إلى الرجوع عما وقع عليه باراك اوباما من اتفاقيات او قرارات تنفيذية وانما كل ما كان مستقرا في علاقات الولايات المتحدة بالعالم وبحلفائها وبالمنظمات الدولية التي شاركت كزعيمة الرأسمالية في وضع بنودها. لا يجنح ترامب الى الانعزالية بل يطبقها ضاربا عرض الحائط بالشعارات المصاغة من بلاده بدءا من بدايات العقد الثمانيني مثل «حرية حركة المال والسلع والأفراد» ومثل تجارة حرة وعادلة واستبدلها بفرض الجمارك على السلع المستوردة وببناء الاسوار بينه وبين جيرانه منعا للهجرة غير الشرعية بعد ان اغلق باب الهجرة الشرعية. إننا امام حالة شعبوية خاصة تتقدم من خارج مؤسسات الدولة الامريكية ولكنها تكتسب زخما شعبيا لأنها تتجه الى غرائز جماهير لا ترفع شعار «امريكا اولا» وإنما شعار «امريكا البيضاء أولا». وهذه هي الحقيقة.
نقلا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع