ما يحدث فى الولايات المتحدة الامريكية الآن من حركة طلابية ليس له من مثيل إلا عندما استمرت النساء الامريكيات ينظمن المسيرات والمظاهرات مطالبات بإنهاء التدخل الأمريكى فى فيتنام خلال الحقبة الستينية وبداية الحقبة السبعينية من القرن الماضي. انتصرت هذه الحركة مع عام 1975 عندما زحفت قوات حركة التحرر الفتنامية على هانوى وطردت فلول الجيش الأمريكي.
الفارق أن ما يحدث الآن فى الولايات المتحدة تنظمه جموع غفيرة من تلاميذ المرحلة الدراسية الثانوية بقيادة تلاميذ مدرسة بارملاند فى ولاية فلوريدا بعد أن قتل زميل لهم 17 من زملائهم التلاميذ فى حادث يتكرر وقوعه باستمرار فى المجتمع الامريكي. ويمكن اعتبار الحركة الطلابية الحالية هى الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية. فقد امتدت فى أقل من شهر من ولاية فلوريدا إلى اطلنطا وبلتيمور وبوسطن وشيكاغو ولوس انجلوس وميامى ومينيابوليس ونيويورك وسان دييجو وسانت لويس ثم ساندتها حركات من خارج الولايات المتحدة فى ستوكهولم ولندن وسيدني. وإذا كانت حركة النساء قد وقفت ضد الحرب الفيتنامية فإن حركة التلاميذ الكبيرة تطالب بتغيير المادة الثالثة فى وثيقة الحريات «bill of rights» والمقرة لحرية امتلاك الأفراد السلاح بعد شرائه من المتاجر المنتشرة فى كل الشوارع فى كل الولايات. وهى الوثيقة الصادرة عام 1791 والملحقة بالدستور الامريكي.
والحركة الحالية لا تنظمها الاحزاب ولا يقودها السياسيون وإنما تنظم وتتم قيادتها من التلاميذ الذين لم ينهوا بعد مرحلتهم الثانوية ولم يتعرفوا على الساحات الجامعية «campus» حيث توجد مساحات حرية الفكر والحركة.
واذا كانت حركة النساء لوقف الحرب فى فيتنام، قد واجهت صناعة السلاح الأمريكية القوية والتى كانت تستفيد من استمرار الحرب فى فيتنام فإن حركة الطلبة هذه الأيام تنتظم ليس ضد صناعة السلاح القوية فحسب وإنما وبجانبها تجارة السلاح القوية والمنتظمة فى منظمة داخلية وذات علاقات متينة للغاية مع الحزب الجمهورى تحديدا والمدافع باستمرار عن حرية شراء وتداول السلاح فى الولايات المتحدة الامريكية. وهى من المنظمات التى تقدم التمويل الكبير السخى لأعضاء الحزب الجمهورى فى أى انتخابات سواء على المستوى الاتحادى أو على مستوى الولايات.
بدأت هذه الحركة من المدرسة ذاتها التى شهدت الحادث. تكتلت مجموعة من التلاميذ شاهدى العيان للحادث والناجين منه وانتظموا وراء هدف واحد وهو الضغط على المسئولين من اجل تغيير المادة الثالثة من وثيقة الحقوق بهدف تحديد تجارة السلاح فى البلاد بحيث لا يصل السلاح إلى ايدى التلاميذ فتتكرر الأحداث الدامية. وارادوا تنظيم مسيرة فى الولاية تطالب بتحديد تجارة السلاح. وعندما خرج من البيت الابيض الاقتراح الخاص بنية تسليح وتدريب المدرسين بحيث يستطيعون الدفاع عن مدارسهم وتلاميذهم استشعر الكثير من التلاميذ ان الاقتراح لا يحل المشكلة كما انه لا يلائم الوضع التعليمى فى البلاد أو فى أى من البلدان الأخري. فالمعلمون مهنيون تربويون وليسوا حراس أمن. بل استشعر الكثيرون أن منظمة تجار السلاح «rna» هى التى تقف وراء اقتراح البيت الأبيض بل هى صاحبته الاصيلة.
فما كان من التلاميذ إلا أن بدأوا يوسعون من حركتهم ويخرجون بها الى خارج مدرستهم وإلى خارج ولايتهم إلى ولايات أخري. وتحولت حركة تلاميذ المدرسة إلى حركة تلاميذ أعداد من المدارس فى أعداد من الولايات وبلدان خارج الحدود. وخرجت مسيرة كبيرة فى عواصم الولايات وكان اكبرها فى العاصمة واشنطن وفى شارع فيلادلفيا الشهير.
لم يتدخل السياسيون فى تنظيم المظاهرات وإنما ساندها البعض منهم بجانب عدد من المثقفين خاصة من الحزب الديمقراطى الذى يميل إلى تعديل المادة الثالثة من وثيقة الحقوق لمحاصرة تجارة السلاح. أمدوا التلاميذ بالتبرعات التى ساعدتهم على التنقل وتوفير المعيشة للآلاف منهم. فماذا يمكننا الخروج من هذه التجربة الثرية لعدد من تلاميذ المدارس الثانوية الأمريكية وهم يواجهون البيت الأبيض وتكتل صناعة السلاح وتجارته القويتين؟
أول ما يمكن الخروج به من هذه التجربة أن العمل العام هو المدرسة الحقيقية لبناء القيادات. هذا العمل العام الذى يأخذ شكل العمل السياسى المباشر أو غير المباشر. فى حالتنا الأمريكية هذه بدأ العمل العام فى مدرسة ثانوية قد لا ينصب اهتمام تلاميذها إلا على مباريات البيسبول ولكنهم فجأة وجدوا أنفسهم أمام مشكلة تمس حياتهم وحياة زملائهم. نسوا ملاعبهم وخلافاتهم وتجمعوا حول هدف كبير واحد يسعى إلى تحقيقه عدد كبير من المواطنين الأمريكيين. كما انهم تجمعوا على أساس الهدف فنسوا الفروق الخاصة باللون والنوع الاجتماعى والدين.
لم تكن حركتهم سهلة لأنها احتاجت التصدى لفلول تجار السلاح ومن يساندهم فى الأجهزة المحلية. لذلك بدأوا يكتسبون خبرة العمل العام فى هذه السن المبكرة. يتعلمون كيف ينظمون انفسهم وينظمون الآخرين وكيف يتحاورون وكيف يكسبون المناصرين من السياسيين والمثقفين والقادرين على تقديم المساعدات المالية. ثم تعلموا كيف يحددون من حركة تيارات التطرف أو الدخلاء عليهم بحيث لا يسمحون بأى اختراق يتسبب فى افشال الحركة. واتصور انهم يعلمون جيدا تاريخ التدخلات البوليسية الأمريكية التى تسببت فى إجهاض حركات سلمية عمالية ونسائية. تعلموا كيف ينفقون التبرعات بحيث يقدمون حساباتها بكل شفافية. شكلوا فيما بينهم مسئولى المالية والتنظيم والاتصالات بحيث يتشارك الجميع فى العمل تحقيقا للهدف الواحد وهو تقييد تجارة السلاح فى الولايات المتحدة الأمريكية. وهو فى حد ذاته هدف إذا ما تحقق، ولو جزئيا، سيكون البداية الحقيقية لمناهضة الجريمة فى المدارس والجامعات.
خبرات جماعية كبيرة اكتسبها المئات من التلاميذ بحيث اتوقع أن الأجيال القادمة ستقدم من هذه الحركة رئيسا يدخل البيت الأبيض أيا كان لونه او دينه او نوعه الاجتماعي. فالعمل العام هو الصانع الحقيقى للقيادات.
ثم نلاحظ أن تجربة تعبئة المواطنين حول هدف محدد لا تدرس فى مناهج المدارس الثانوية الامريكية ولا فى مناهج اى مرحلة ثانوية او جامعية فى اى من البلدان ولكنها تجربة تكتسب من الحركة العامة التى تنبت فى ساحة تتمتع ببعض الحريات.
نقلاً عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع