بقلم - أمينة شفيق
يستمر الخلاف فى صفوف النساء الناشطات فى قضايا المرأة حول الأوضاع التى تعبر عنها الأرقام الرسمية المتعلقة بالتقدم بحقوق النساء وأوضاعهن فى المجتمع. فى صفوف هؤلاء الناشطات يوجد رأى يربط بين التقدم فى أوضاع النساء بعدد المقاعد العلوية التى تصل إليها النساء. مثلا فى مقاعد الوزارة أو البرلمان او وزارة الخارجية ودائما وباستمرار فى مقاعد القضاء. وفى الصفوف نفسها يوجد تيار آخر يربط بين تقدم النساء وبين كثافة وجودهن فى المواقع القاعدية التى تحرزها النساء فى النقابات والتعاونيات والمحليات والاتحادات، والمهم من كل هذه المواقع، ويعنى هذا التيار بكم النساء العاملات فى المواقع الصناعية والزراعية وفى الخدمات وفى جهاز الدولة. وباختصار يهتم الفريق الاول بقمة الهرم فى حين يركز الثانى على قاعدته.
والجمع بين الرأيين فضيلة لأن الوجود العلوى يساعد على تعود المجتمع، وخاصة المجتمع النامي، على وجود المرأة فى الحياة العامة وقدرتها على المشاركة فى ادارة شئون البلاد. ولكن لابد من الاعتراف بأن الاعتماد على هذا التوجه بمفرده يتضمن خطورة قد تصاحب مسيرة المرأة على طول تاريخها. لذا كان التسلح بالرأى والتوجه الثانى على طول المسيرة بالغ الاهمية والضرورة. فالانتشار الطبيعى للنساء العاملات فى الزراعة والصناعة « العمل الانتاجي» يتحول دائما إلى الأساس القاعدى لتطور وجود المرأة فى الحركة الرأسية للمجتمعات.
وامثال من تاريخنا الحديث يشير إلى قرار تعليم الفتيات المصريات صدر بقرار علوى من رئيس وزراء مصر عام 1923 وان التحاقهن بالدراسة الجامعية كان بقرار «ماكر وعلوي» من احمد لطفى السيد وأن الغاء قرار منع المرأة من الجمع بين الزواج والعمل الغى بقرار ذكى من احمد نجيب الهلالى وزير المعارف وان المساواة الكاملة فى فرص التعليم كانت على يد طه حسين ثم جاء جمال عبد الناصر ليمنحها الحقوق السياسية ثم ليفتح، وهذا مهم جدا، امامها كل فرص الالتحاق بكل مجالات العلم والعمل وخاصة المجالات الانتاجية.
تاريخيا، اعرف تماما أن عمل المرأة فى الصناعة سبق التحاقها بالبرلمان والقضاء والمقاعد الوزارية والعمل الدبلوماسى وكل تلك المواقع التى تتباهى بها بعض قياداتنا كما نتباهى بها جميعا. فيما عدا مهنة التدريس التى التحقت بها المرأة ولكن بأعداد قليلة. وكان على رأس المعلمات الآنسة نبوية موسي. كانت المصرية تعمل فى الصناعة ولكنها انخرطت بشكل جماهيرى فيها فى اطار الخطة الخمسية الأولى 19601965 وما بعدها. كما كانت تعمل دائما فى الزراعة ولكن فى القرن العشرين بدأ انخراطها فى العمل المنظم المدفوع الاجر بشكل مستقل.
وإذا عقدنا مقارنة بسيطة بين الواقع المصرى الحقيقى للمرأة المصرية بمكتسباتها الاقتصادية والاجتماعية فسوف نشاهد تغيرا ملحوظا فى وجودها فى سوق العمل. نجدها تحتل ستة مقاعد وزارية وتسعين موقعا فى البرلمان وعددا محترما لا بأس به فى العديد من المواقع التنفيذية فى الشركات الكبرى والبنوك والمؤسسات الاستثمارية فى مقابل تراجع اعدادها فى القطاع الصناعى الرسمى وتحديدا فى الصناعات التحويلية التى كانت تتميز بكثافة عمالتها.
مع تصفية هذه الصناعات ومع تشجيع العمال والعاملات على ترك العمل والخروج المبكر على المعاش ومع عدم تأسيس صناعات جديدة متطورة تستوعب « بناء على قناعة مجتمعية» أيادى عاملة نسائية تراجع عدد النساء العاملات فى العملية الانتاجية التى هى الاساس فى البناء الانسانى وتأكيد قيمة المواطنة والمشاركة لدى النساء. والمهم فى هذا الشأن بناء قاعدة نسائية عاملة تتحرك منها قيادات مهنية عديدة تصعد الى المواقع المنتخبة فى النقابات والمحليات وغيرها من تلك المواقع التى نعتبرها المدارس التى تكون لدى النساء القيم الوطنية والاجتماعية العامة.
وحتى عندما اتجهت الدولة إلى بناء أو استكمال المشرعات العملاقة فإنها لم تلتفت إلى ان هذه المشرعات لم توظف نساء عاملات. فازداد التراجع العددى للنساء العاملات. وبالتالى تراجع دور المرأة او توجهها فى تلك المراكز القيادية الوسيطة التى كانت تحتلها بأعداد واعدة فى العقدين الستينى والسبعينى من القرن الماضي. ولنا ان نلقى نظرة على مواقع مجالس ادارات النقابات سواء العمالية او المهنية لنتأكد من هذه الحقيقة. نتيجة ثانية هى فى التباعد الفكرى المجتمعى الذى يزداد فيما يتعلق بحقوق المرأة كمنتجة ومواطنة والمشاركة الحقيقية فى هزيمة التخلف الاقتصادى والاجتماعى والثقافى وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة. وتزداد الفجوة بين النوعين الاجتماعيين فى الثقافة العامة للمجتمع.
وعندما أقدمت الدولة على تنفيذ مشاريع التكافل الاجتماعى لمساعدة الأسر الأكثر احتياجا، ووجهت جهدا متميزا للمرأة الأكثر فقرا، فإنها قد ساندت ملايين النساء اللاتى يعشن بلا دخل وكذلك بلا امكانيات للالتحاق بسوق العمل الرسمى أو غير الرسمي. إلا اننا لابد من الاعتراف بأن تلك المشروعات تفيد تلك الأسر وكذلك النساء فى سد بعض الاحتياجات الحياتية إلا أنها فى النهاية لا تضمن الاستمرارية والديمومة ولا حتى توفير الظروف التى تنمى من قدرات الأفراد المستفيدين منها. فالذى يتأكد دائما أن «العمل الانتاجي» المنظم هو السبيل المؤكد لمناهضة الفقر وبناء الانسان.
ومن هنا، وبناء على ما تعلمناه وعرفناه فإننا الآن فى زمان نحتاج فيه إلى مرحلة تتنوع فيها مجالات الانتاج وفنونه بحيث تجذب الانشطة الاقتصادية الجديدة عمل النساء ومشاركتهن فى العمل والبناء وتلتحم الصورة العلوية مع الاخرى القاعدية ليغذيا الثقافة المجتمعية العامة وتتحول المرأة فى الصورة الذهنية فى المجتمع الى مواطنة نشطة ومشاركة. ثم ليعود العمل فى ذهن المرأة إلى عادة يومية لا تستطيع الاستغناء عنها. وعندما تتسع هذه القاعدة الانتاجية النسائية فسوف نتذكر عبارة «للذكور فقط» كعبارة لم تعد قائمة فى قاموسنا الثقافي.
نقلا عن الاهرام القاهرية