بقلم : فهد سليمان الشقيران
مهرجان المونديال، أو بطولة كأس العالم، تعبّر عن التجمع الإنساني؛ خليط من الأعراق داخل المنتخبات. التلاقي بين المجتمعات، النكات والقفشات، الاهتمام باللعب من أجل اللعب، كل ذلك لا يتوفر كثيراً في الألعاب الأخرى. والحق أن كرة القدم لم تكن بعيدة عن الاهتمام الفلسفي، فبحسب عبد السلام بن عبد العالي، فإن فلاسفة كثراً كتبوا عن زين الدين زيدان بعد مساهمته الكبرى بفوز فرنسا بكأس العالم عام 1998. واللاعبون مثل الفنانين، يتعاطون الرؤى والأفكار، وبخاصة العقلاء والمتعلمون منهم. من أولئك الحارس الشهير بوفون، الذي ترجمت له الأديبة والكاتبة رجاء عالم أحد الحوارات الطريفة معه.
تقول رجاء في مقدمة ترجمتها للحوار: «فلسفة حارس مرمى الأفضل يكون في مكان آخر دائماً، هذا عنوان مقالة استرعت انتباهي في مجلة باليه (Palai). وحيث إن المجلة مختصة بالفن، فلقد أدهشني أنها تَتَضمَّن بين موضوعاتها حواراً مع حارس مرمى شهير، استمتعتُ بقراءة هذا الحوار، ورأيت أن أنقله إلى العربية لما فيه من رؤيا خاصة، قد توضح العلاقة بين كرة القدم والفن. تميّزت شخصية بوفون بالصراحة وبتصريحاته المُبهَمَة للصحافة والمثيرة للجدل، تماماً كما تَمَيَّز بجرأته في الملعب، ومناوراته الانتحارية، التي تجعل الكرة تنساب تحت الأقدام الساحقة للمهاجمين. وُلِدَ جيجي بوفون في كارارا بإيطاليا في عائلة رياضية، فأمه رامية قرص، وأبوه رافع أثقال، وأختاه لاعبتا كرة طائرة، وكان خاله لاعب كرة سلة، وهو ابن أخي لورنزو بوفون حارس فريق ميلان وإيطاليا السابق. بدأ جيجي بوفون مشواره لاعب وسط، وما لبث أن قَرَّر أن يُغَيِّر مَوقعه إلى حارس مرمى، بعد أن فَقَدَ الرغبة في الجري، وكانت هذه ضربة حظ جيدة للعبة الكرة الإيطالية؛ حيث إن بوفون قد يعتبر الآن أعظم حارس مرمى في العالم».
ومن الظريف أن بوفون طرح كثيراً من اللمعات التي تجمع بين الرؤية للعالم وكرة القدم... يعتبر بوفون «سلوك الجمهور مُتَوَقَّعَاً؛ فهم يصيحون، يغنون، ويقذفون بأشياء، لكنك أبدأ لن تعرف ما الذي سيحدث أو درجة كثافته، كأنك أمام جبل من الرمال مُكَوَّن من عدد لا نهائي من الذرات، وبمنتهى العفوية تصل هذه المنظومة إلى حالة تراكمية حرجة، إذا أسقطت ذرات من الرمل واحدة بعد أخرى في كومة، ستتراكم وتتراكم، وتُشَكِّل كوزاً لا يلبث أن يبدأ في الانهيار، جانب الكوز المنحدر يستقر في قيمة حرجة بحيث يُشَكِّل في الأسفل، في نقطة ما، انهياراتٍ صغيرة، وأخرى كبيرة (وانهيارات على كل صعيد بينهما)، هذا السلوك يَتَوَقَّف على حجم وشكل ذرات الرمل، وعموماً من المستحيل استشفاف أي شيء عن ذلك التراكم من سلوكه، وبتعبير آخر، فإن مستوى وتوقيت تلك الانهيارات لا يعتمد على حجم وشكل ذرات الرمل، وإنما يكون مباغتاً».
والذكاء بالنسبة إليه «ليس قضية معرفة، إنما هو نشاط مُتَعَلِّق بالدعابة، بالمتعة، بالفضول، فأنا أحصل على متعة جمالية من فكرة ما، أُحبُّ شكلها وصيغتها أكثر مما أحبُّ قابليتها للتحجُّر في سلسلة من الحقائق غير القابلة للجدل. ربما كنتُ أتحدَّث عن نوعٍ مرئي من ذكاء ليس بحاجة لأن يُكتَب. نوع يقترب أكثر من طبيعة الحوار بين الأصدقاء. أو من الأشياء التي تخطر على بالي عندما أكون مسافراً من مدينة إلى أخرى. الذكاء قضية أن تكون متيقظاً خارج الأفكار المألوفة عن العادة، باستجابة فورية، في نكتة، أو خدعة، أو شقلبة للمعنى تؤدي إلى ضحكة. توجد مساحة مشرعة فيما وراء عقلي. أحياناً أفكر أن هناك دائماً أشياء مشوقة مثيرة للاهتمام خلف العلاقات التي لا معنى لها، تبقى مختبئة هناك، لأن الناس جادون جداً ولا يلعبون وفقاً لعقيدة الحقيقة».
قبل أيام، كتب جوناثان ويلسون، وهو كاتب في مجال كرة القدم، ومؤلف لكثير من الكتب حول ذلك، مقالة بعنوان «أوروبا الشرقية... من بوتقة كرة إلى أرض قاحلة»، ويحيل إلى «نظرية تقول إن كل فريق فائز بكأس العالم، باستثناء أوروغواي في البطولة الافتتاحية عام 1930، كان متأثراً بشكل ما بموجة المدربين المجريين العظماء الذين انتشروا بأرجاء العالم في أعقاب الحرب العالمية الأولى. الحجة ليست ضعيفة تماماً، حتى إن كان هناك بعض المتشككين. على العكس من ذلك، لا يوجد من يشك حقاً في أن أصول طريقة الضغط المضاد العكسي، التي ربما تكون هي الأسلوب السائد في اللعبة بشكلها الحديث، تعود إلى الاتحاد السوفياتي، وقد بزغت من مباراة ودية عام 1983 بين فريق نادي «فيكتوريا باكنانغ» الألماني وفريق نادي «دينامو كييف»، الذي كان يديره فاليري لوبانوفسكي، المدرب الأوكراني العظيم. وكان فيكتور ماسلوف مدرباً روسياً حقق نجاحاً كبيراً مع كل من نادي «توربيدو موسكو» ونادي «دينامو كييف»، وهو من طوّر طريقة الضغط ذاتها التي يمكن القول إن ظهورها في الستينات قد مثّل مولد كرة القدم القديمة الحديثة.
البطولة العالمية هي استعراض للحيوية الدنيوية؛ لإمكانية التلاقي والتعايش والضحك معاً، للمتعة الأنيقة، فكل منتخب يعرض مستوى تطوّر بلاده. إن هذه اللعبة محيّرة في تشويقها، مفرحة في فوزها، محزنة في هزائمها، فمباراة واحدة مثل حرب رمزية، وما عنى ذلك انتهاء الأثر السياسي للمباراة بين الفرق، في هذه البطولة يتبارى المتحاربون قديماً وحديثاً، ستلتقي إيران بأميركا. إن في هذه البطولة ما لا يرى في أي تجمعٍ إنساني آخر، إنها فضاء ضخم من الرمزيات التي تعبّر عن تاريخ البشر وحاضره، قبل سنواتٍ قليلة لم تكن التقنيات (مثل الفار) مستخدمة. الآن من يحتسب الوقع أو يقرر منح ضربة الجزاء وغيرها مجموعة من التقنيات، يقول زيدان على ثورة التقنية في كرة القدم: «إنها تفقد الكرة متعتها» لكن دخول التقنية دليل ساطع على علاقة الرياضة بتطوّر عقل الإنسان.