بقلم : فهد سليمان الشقيران
كتب الأستاذ توفيق السيف مقالةً بهذه الجريدة تحت عنوان: «الحداثة التي لا نراها»، وفيها يعلّق على ما وصفه الشاعر محمد الحرز بجدال الحداثة وتصنيف الحداثي والتقليدي، وهذا نقاش مثير للنقاش؛ وآية ذلك أنَّ النقاش حول الحداثة لم ينته بعد، بل ثمة قراءات متجددة في الغرب كُتب عنها حول امتداد الحداثة بعد ضمور فلسفة ما بعد الحداثة، وذلك بسبب صعود التقنية العليا الصاعدة التي نقضت نسيج فلسفة ما بعد الحداثة، ولم يعد أحد يتحدث عنها إلا قلة، وذلك لأنَّ الحداثة قائمة على نظرية عميقة متماسكة، على عكس ما بعد الحداثة والتفكيكية التي تركز على النقض والتدمير كما في التفكيكية، من دون إنتاج بديلٍ قويّ بل تعدّ التحديث أساس بناء الأفكار، لهذ بقيت. لكن يذكر لما بعد الحداثة أنها أيقظت إنتاج الحداثة؛ بدليل أنَّ الحديث والدرس حول كانط أعلى منه حول جاك ريدا حتى اليوم.
وأعلق على مقولة الأستاذ توفيق السيف: «الحداثة بقطبيها تدور حول العقل لكونه مهيمناً على العالم، هي ليست نظاماً محدد الأطراف، بل مشروع بنهايات مفتوحة للتطور والتحول. وكلما بلغت مرحلة انكشفت أمامها مسارات جديدة. لذا لا ينبغي اعتبار المستوى الفعلي لمجتمع معين (الغرب مثلاً) معياراً نهائياً تقارَن به المجتمعات الأخرى. ما هو مهم في الحقيقة هو ما ذكره د. حسن النعمي في حديث مسجل: محورية العقل وكون نتاجه معياراً وحيداً لما يُقبل أو يُرفض. ولا أرانا بعيدين عن هذا، حتى لو قبلنا بعض التحفظات من هنا أو هناك».
وقد أجريت من قبل مقابلةً مع أستاذنا الراحل محمد سبيلا، وهو مؤلف عن الحداثة وما بعدها العديد من المؤلفات، وما يهمنا من قوله أن «اصطدام التقليد بالحداثة هو أشبه ما يكون باصطدام كوكبين اصطداماً انفجارياً؛ لأن التقليد كون والحداثة كون آخر أو كيان آخر. إنه اصطدام في غاية العنف لكنه بطيء وعميق المفعول. هذا الاصطدام الانفجاري الهائل هو الذي نشهد منذ القرن الثامن عشر الميلادي نتائجه المهولة على اقتصاديات وسياسات وثقافات وتقنيات البلدان المتأخرة تاريخياً، حيث تحدث تخرمات وتشوهات وتداخلات عنيفة وتفاعلات رمزية استعارية على كافة المستويات».
ويضيف: «أنا مدين في إبراز ذلك - خاصة على المستويَين النفسي والثقافي - للفيلسوف الإيراني داريوش شيغان في معظم كتاباته وبخاصة في كتابيه، ما هي الثورة الدينية، وكما عاشت أوروبا في بدايات انطلاق الحداثة صراعات دموية عنيفة وتمزقات اجتماعية وثقافية في حالة فصام وجداني وثقافي، وهي صراعات تغلَّبت فيها البورجوازية المستنيرة المتحررة من هيمنة الكنيسة، والتي كانت قادرة على تطوير ثقافة دنيوية عقلانية ونقدية، فإنَّ المجتمعات والثقافة العربية منذورة لتعيش حالات تمزق وفصام أقوى وأعمق بسبب عمق ورسوخ التقليد وهيمنة التراث، أو تصور ارتدادي للتراث على المجتمع والثقافة والفرد العربي والمخيال العربي».
الخلاصة أن الحداثة لم تنته بعد، وحتى أفكار ما بعد الحداثة هي بمثابة تنويع في التطوير والتحديث، ولذلك فإنها مثل نقد على النقد، وهذا يحسب لها. إن الحداثة هي أساس التطوّر ولو تأملنا بالتنمية، أو الاقتصاد، أو رأس المال الرمزي الثقافي، أو المستوى الاجتماعي في التطوّر، فإنها مدينة لأفكار التحديث. والحداثة ليست بعبعاً حتى نخاف منها، إنها تقول لنا تطوروا، غيّروا القديم وانطلقوا للجديد من الأفكار والفنون والعلوم.
لكل أمةٍ حداثتها الخاصة، للصين حداثتها، وللغرب حداثته، وعليه فإن تشويه الحداثة بحد ذاته موقف مفاده أن نتوقف عن التطوّر؛ بدليل أن الدول حين تأسست ووضعت النظم وقوانينها ثمة من عارضها، وإلى الآن نراهم عياناً ونباشر ونتابع مواقفهم إلى اليوم، نستطيع أن نقول إن الحداثة انتصرت على أفكار ما بعد الحداثة.