بقلم - فهد سليمان الشقيران
لم يكن خطاب السعادة المسوّق في الميديا مجرد حشو يعبّر عن استغلالٍ لمشاعر الناس المتلهّفين للوصول إلى ما يعدهم به المدّعي فحسب، وإنما يعبّر بالأساس عن مستوى فظيع من الجهل الذاتي، وممارسة التجهيل للآخرين، وهذا ليس مقتصراً على العرب كما تقدم في السلسلة التي خصصتها للسعادة بهذه الجريدة، وإنما حتى في أوروبا وأميركا يومياً تطبع سلاسل من الكتب تتحدث وتسوّق لخطاب السعادة الرجعي الارتكاسي. واليوم يمكننا البحث في تمتين تعاملنا مع مفهوم السعادة عبر التبحر في التناول الفلسفي لهذا المفهوم، وسأخصّ بهذه المقالة تناول إيمانويل كانط لها مقابل الغبطة، انطلاقاً من شرح جيل دلوز المهم لثلاثية كانط، في نقد العقل الخالص، والعقل العملي، ومَلَكة الحكم. معهم يمكننا العثور على خلاصاتٍ أساسية وجدها الفيلسوف دلوز ضمن اهتماماته، ومعلوم أن دلوز وضع سلسلة لقراءة فلاسفة كبار وجد نفسه متقاطعاً مع مفاهيمهم مثل أسبينوزا، ونيتشه، وكانط، وديفيد هيوم، وبيرغسون، وفوكو، ولايبنتز، وبروس، وبيكون، بل لا يعدّ نفسه فيلسوفاً شمولياً، وإنما ينغمس في بعض المفاهيم والفلاسفة والفلسفات ويعكف عليها لفترة من الزمن، ويسخر من نفسه؛ إذ يقول إنه سرعان ما ينسى الذي كتبه حين يسأل عنه، وحين رجعتُ لشرحه الصغير والمتميز لفلسفة كانط النقدية وجدتُ أن مما يناسب العرض في صحيفة سيّارة أن نتناول مفهوم «السعادة، والاغتباط» والتفريق الكانطي بينهما، لما له من أثرٍ مهم قد يفيد القارئ باعتبار خطاب السعادة اليوم تجاوز كونه باباً نظرياً ليتحوّل إلى سلعة تسويقية باهظة الثمن، وعليها إقبال شديد من بني البشر، ويأتي هذا المقال متمماً لمقالاتي النقدية السابقة لخطاب السعادة. يفرّق كانط بين السعادة والاغتباط باعتبارهما مفهومين مختلفين.
يشرح دلوز كيف أن كانط وفي معرض حديثه عن تناقض العقل العملي، كيف يعبّر هذا التناقض عن «ديالكتيك» عميق يستتبع وهماً داخلياً للعقل الخالص، ويستند التناقض إذن إلى الاغتباط الماثل للعقل العملي، إلى الخلط المحتوم بين هذا الاغتباط والسعادة. نعتقد عندئذٍ تارة أن السعادة بحد ذاتها سبب للفضيلة ودافع لها، وطوراً أن الفضيلة بحد ذاتها سبب للسعادة. وهو يمدد هذا التناقض من بعد حديثه عن تكوّن الوهم الداخلي في العقل الخالص «بوصفه مصدر أوهامٍ داخلية، ما إن يطمح إلى القيام بدورٍ تشريعي»، يرى كانط «أن نقد العقل الخالص يفضح الاستعمال المفارق لعقلٍ تفكري يطمح إلى التشريع بنفسه، ويفضح نقد العقل العملي الاستعمال المفارق لعقل عملي، بدلاً عن أن يشرع نفسه بنفسه، يترك نفسه ينشرط تجريبياً».
يشرح دلوز كانط قائلاً «مع ذلك من حق القارئ أن يتساءل إذا كانت هذه المقارنة المشهورة التي يقيمها كانط بين النقدين، تجيب بشكلٍ كافٍ عن السؤال المطروح، إن كانط نفسه لا يتكلم عن ديالكتيك واحد للعقل العملي، بل يستخدم الكلمة بمعنيين مختلفين كفاية.. يبين في الواقع أن العقل العملي لا يستطيع الامتناع عن طرح صلة ضرورية بين السعادة والفضيلة، لكنه يسقط هذا في تناقض antinomie ويكمن التناقض فيما يلي: أن السعادة لا يمكن أن تكون سبباً للفضيلة (لأن القانون الأخلاقي هو المبدأ الوحيد المحدد للإرادة الخيّرة)، وأن الفضيلة لا تبدو قادرة على أن تكون سبباً للسعادة (لأن قوانين العالم المحسوس لا تنضبط إطلاقاً على نوايا إرادة خيّرة). ربط العقل الخالص العملي هو ذاته ربط للفضيلة والسعادة. إن تناقض العقل العملي يعبّر عن «ديالكتيك» أعمق من السابق ويستتبع وهماً داخلياً.
وإذا كان صحيحاً بحسب المعنى الأول لكلمة «ديالكتيك» أن المصالح والرغبات التجريبية تنعكس في العقل وتجعله نجساً - يقول كانط - فهذا الانعكاس يمتلك مع ذلك مبدأً داخلياً أشد عمقاً، في العقل العملي الخالص بحد ذاته، وفقاً للمعنى الثاني لكلمة ديالكتيك. إن الخلط بين الاغتباط السلبي والفكري، والسعادة، وهم داخلي لا يمكن تبديده كلياً في أي يومٍ من الأيام، لكن تأثيره وحده يمكن أن يتم تحاشيه عن طريق التأمل الفلسفي.
يبقى أن الوهم، بهذا المعنى، ليس معاكساً، إلا في الظاهر، لفكرة طبيعة خيّرة للملكات: إن التناقض بحد ذاته يهيئ جمعاً كلياً totalization، هو عاجزٌ بلا ريب عن القيام به، لكنه يجبرنا على البحث عنه، من زاوية التأمل، كحله الخاص به أو مفتاح متاهته. «إن تناقض العقل الخالص، الذي يصبح واضحاً في ديالكتيكيته، هو في الواقع الخطأ الأكثر نفعاً الذي حدث أن سقط فيه العقل البشري».
يرى كانط كما في شرح دلوز، أن تحقيق الخير الأخلاقي يفترض اتفاقاً للطبيعة المحسوسة (وفقاً لقوانينها) مع الطبيعة ما فوق المحسوسة (وفقاً لقانونها)، وهذا الاتفاق يظهر في فكرة تناسب بين السعادة والأخلاقية، أي فكرة الخير الأعظم «كجملة لموضوع العقل الخالص العملي». لكن إذا طُرح السؤال كيف يكون الخير الأعظم ممكناً بدوره، إذن قابلاً للتحقيق، يتم الاصطدام بالتناقض. من المستبعد أن تكون حكمة الفضيلة سبباً للسعادة؛ لأن القانون الأخلاقي لا يشرّع على العالم المحسوس، ولأن هذا الأخير إنما تحكمه قوانينه الخاصة به التي تبقى غير مبالية بالنوايا الأخلاقية الخاصة بالإرادة، مع ذلك فهذا الاتجاه الثاني يترك المجال مفتوحاً أمام حل: ألا يكون اتصال السعادة بالفضيلة مباشراً (من دون واسطة)، بل يتم ضمن منظور تقدم أو «سبب أخلاقي للعالم» (الله).. هكذا تكون فكرتا النفس والله الشرطين الضروريين اللذين بموجبهما يكون موضوع العقل العملي مطروحاً كممكن وقابل للتحقيق.
يرى كانط كما يشرح دلوز، أن الهدف النهائي لهو بالضرورة مفهوم العقل العملي أو مَلَكة الرغبة بشكلها الأعلى. وحده القانون الأخلاقي يحدد الكائن العاقل كغاية في ذاته؛ لأنه يشكل هدفاً نهائياً في استعمال الحرية، لكنه يحدده في الوقت ذاته كغاية أخيرة للعالم المحسوس، لأنه يأمرنا بتحقيق ما فوق المحسوس عبر توحيد السعادة الشاملة والأخلاقية. وبنص كانط «إذا كانت للخلق غاية نهائية، لا يمكننا أن نفهمه إلا في انسجام مع الغاية الأخلاقية، التي تجعل وحدها مفهوم الغاية ممكناً... إن العقل العملي لا يعيّن فقط الهدف النهائي، بل يحدد أيضاً هذا المفهوم بالنسبة للشروط التي يمكن بموجبها أن نتصوّر (نفهم) الهدف النهائي للخلق». يعتبر كانط أن كل مصلحة هي عمليّة، ومصلحة العقل التفكري بالذات ليست إلا مصلحة مشروطة، وليست كاملة إلا في الاستعمال العملي». فـ: «المصلحة هي ما يصبح العقل به عملياً... إن مصلحة العقل المنطقية، التي تتمثل بتنمية معارفه، ليست مباشرة (من دون واسطة) إطلاقاً، بل تفترض غاياتٍ يرتبط بها استعمال هذه المَلَكة».
يصف كانط «الاغتباط» بأنه «الوضع الأسمى للذة، والاغتباط ليس نتيجة محسوسة ولا هو عاطفة مخصوصة، بل نظير فكري للعاطفة». يرى كانط كما يشرح دلوز، أن فكرة الغاية الأخيرة تستتبع إذن فكرة الهدف النهائي، التي تتجاوز كل إمكاناتنا للملاحظة في الطبيعة المحسوسة، وكل موارد تفكيرنا. هل يتعلق الأمر بالإنسان بوصفه يبحث عن السعادة؟ كلا؛ لأن السعادة كغاية تترك السؤال التالي بقي كلياً: لماذا يوجد الإنسان (بـ«شكل» يجتهد معه لجعل وجوده سعيداً)؟ هل يتعلق الأمر بالإنسان بوصفه يعرف؟ لا شك أن المصلحة التفكرية تشكّل المعرفة كغاية؛ لكن هذه الغاية لا تكون شيئاً لو أن وجود من يعرف لم يكن قد بات هدفاً نهائياً. إذ نعرف، نكوّن فقط مفهوم غاية طبيعية من زاوية العكس لا فكرة هدف نهائي.
السؤال الأخير هو: كيف يكون الهدف النهائي هدفاً أخيراً أيضاً للطبيعة؟ أي كيف يمكن للإنسان، الذي ليس هدفاً نهائياً إلا في وجوده ما فوق المحسوس وكنومين أن يكون هدفاً أخيراً للطبيعة المحسوسة؟ نحن نعلم أن العالم ما فوق المحسوس، بصورة ما، ينبغي أن يوحّد مع العالم المحسوس: ينبغي أن يحقق مفهوم الحرية في العالم المحسوس الغاية التي يفترضها قانونه، هذا التحقيق ممكن بنوعين من الشروط: شروط إلهية (التحديد العملي لأفكار العقل، الذي يجعل ممكناً خيراً أعظم كاتفاق للعالم المحسوس والعالم ما فوق المحسوس، للسعادة الأخلاقية)؛ وشروط دنيوية (الغائية في علم الجمال وفي النظرية الغائية، بوصفها تجعل من الممكن تحقيقاً للخير الأعظم بالذات، أي تلاؤم للمحسوس مع غائية أعلى).
إن تحقيق الحرية هو إذن تمام أيضاً للخير الأعظم «اتحاد الرفاه الأعظم للمخلوقات العاقلة في العالم مع الشرط الأسمى للخير الأخلاقي فيه» بهذا المعنى يكون الهدف النهائي غير المشروط غاية أخيرة للطبيعة المحسوسة، ضمن الشروط التي تطرحه كقابل بالضرورة للتحقيق وينبغي تحقيقه في تلك الطبيعة. بمقدار ما لا تكون الغاية الأخيرة غير الهدف النهائي، تكون موضوع مفارقة أساسية: إن الغاية الأخيرة للطبيعة المحسوسة هي غاية لا يمكن هذه الطبيعة بالذات أن تكفي لتحقيقها. ليست الطبيعة هي التي تحقق الحرية، بل مفهوم الحرية هو الذي يتحقق أو يتم في الطبيعة، هكذا يقول كانط.