بقلم : فهد سليمان الشقيران
من المعروف أن الدكتور سعد الصويان، حين يقتنع بفكرة وتتضح له ملامحها ويمسك بناصية حججها فإنه يطرحها ولا يبالي؛ يبرهن على ذلك نتاجه الفكري الغزير، أما نتاجه العلمي فلا مرية في رصانته. إنه حين يطرح مقولة أو فكرة يصعب على معانديه أن يبارزوه بالحجة، لذا يلغون في المحظور من القول، والبهتان، والزور، فيحملون أوزاراً مع أوزارهم، والهجمة الأخيرة على الصويان بعد حديثه عن علاقة القبيلة بالدولة، وموقعها من التطور الحالي، إنما يأتي ضمن المجال البحثي الذي ينغرس فيه قول الصويان منذ عقود.
ظن البعض أن حضوره التلفزيوني في بعض القنوات الشعبية، وكتاباته في «الشعر النبطي» ودفاعه عن «مزاين الإبل» أنه دفاع عن التقاليد ودعوة إلى الركون، بينما كل عمله إنما ينطلق من تخصصه في الأنثروبولوجيا، فهذه العُدد من «الشعر النبطي» إلى تركيبة «السالفة» إلى «مزاين الإبل» هي محتويات لبحوثه يعتبرها مستويات أنثروبولوجية، قد يكون تعلق بها وجدانياً نظير انشغاله الطويل، لكن هذا لا يعني أنه صار من سدنتها، وهذا ما لم يفهمه البعض من الهتيفة والرديدة، الذين اعتبروا قوله مروقاً عن الذي اعتادوه عليه من أحاديث في القنوات الشعبية وتسجيلاته مع الرواة، لقد ظنوه من كتبة الأنساب ومن رديدة الشعر النبطي، ولم يعرفوا جيداً طبيعة مشروعه الكبير.
وحين ندقق في ما قاله الصويان نجده مألوفاً ومطروحاً، فمن جانب التداخل في القبيلة الواحدة عبر الأجيال، قال ذلك علامة الجزيرة حمد الجاسر، في الجزء الثاني من كتابه «السوانح»، حين قال: «إنني حاولتُ في الكتابين (يعني معجم قبائل المملكة العربية السعودية) و(جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد) وفي غيرهما - مما كنتُ أنشره في (العرب) وغيرها من أبحاثٍ في الموضوع - أن أزيل كثيراً من الأوهام التي ألصقت ببعض القبائل، مع التعمق في دراسة أنسابها، حتى تمكنتُ من إثباتها على الوجه المُرضي، مما دفع بعضهم إلى النيل مني في مؤلفاتٍ مطبوعة، بل لقد كان من أثر ذلك أن بعضهم غضب عليّ حين كتبتُ بحثاً يتعلق بالأنساب مما لا داعي لذكره»، ثم يقول الشيخ، وهذا قول ليس من عنديات الصويان وحده، يقول الجاسر: «ولا أبالغ إذا قلتُ بأن علم النسب لا يقوم على أسسٍ علمية صحيحة، فما هو سوى موروث الأجداد للأحفاد من بعدهم، مما يعتمد على الذاكرة والعاطفة، وهما ليستا مؤتمنتين دائماً». (من سوانح الذكريات، مراجعة وتقديم د. عبد الرحمن الشبيلي، الجزء الثاني، ص: 973).
هذه الفكرة الأولى التي ذكرها الصويان، وأثارت شغب البعض، أن أعضاء الانتساب إلى القبيلة لا يحملون سنداً مقدساً يعني اكتمال وثوقيته. وأضاف أن البعض يلتحق تدريجياً بالقبيلة بعد السكنى واللجوء إليها، وأشار إلى مثل ذلك الشيخ حمد الجاسر، كما تحدث عن أن بحوثه في الأنساب إنما جاءت لغرض إغناء الثقافة المجتمعية، وآية ذلك أن مشروعه حين انحرف البعض في استخدامه لغرض ضرب المجتمع ببعضه توقف وعدل عن عزمه بإصدار أجزاء أخرى تتعلق بموضوع النسب، ولذلك حين كتب العلامة والرحالة الشيخ محمد العبودي، سلسلته في المعاجم المعنية بالأسر، إنما اتخذ من تاريخ الأسرة وقصصها وتجارتها وعلاقاتها السياسية والاقتصادية هدفه، وعدل عن الدخول بالأنساب ما أمكن مع اقتداره الفذ لولوج هذا الباب، والتأليف به، فهو ابن بجدتها. وعليه فالقصد أن الصويان إنما جعل الفكرة هذه أكثر علمية وأقرب إلى التحليل الأكاديمي منه إلى الرصد والتأريخ، وهذا ما لم يفهمه مَن شغب عليه.
أما الفكرة الثانية التي غضب منها أولئك، فهي تحليل الصويان للعلاقة بين القبيلة والدولة، علماً بأن الذي طرحه أساسي لأي قارئ في تشكل مفهوم الدولة، يحدثنا عن ذلك المتخصص في مفهوم الدولة فرنسيس فوكوياما، في فصلٍ بعنوان: «ما قبل الدولة» ضمن الجزء الأول من كتابه الكبير: «أصول النظام السياسي»، يقول: «حين ورثت المجتمعات على مستوى الدولة سابقتها المجتمعات القبلية، لم تختفِ القبيلة ببساطة من الوجود. في الهند والصين والشرق الأوسط وأميركا ما قبل كولومبوس، اصطفت مؤسسات الدولة فوق طبقة المؤسسات القبلية، ووجدت معها في توازن قلق لفتراتٍ طويلة من الزمن. أحد أكبر أخطاء نظريات التحديث الأولى، علاوة على خطئها في الاعتقاد بوجوب اتساق أنساق السياسة والاقتصاد والثقافة بعضها مع بعض، كان الاعتقاد بأن التحولات بين «مراحل» التاريخ أحادية البُعد ومرتبة وغير قابلة للعكس. أوروبا هي الجزء الوحيد من العالم الذي استبدلت فيه بالقبيلة تماماً أشكال علاقاتٍ اجتماعية أكثر طواعية وفردانية، حيث لعبت المسيحية دوراً حاسماً في تقويض علاقات القرابة كأساس للتماسك الاجتماعي. ونظراً لأن معظم منظّري التحديث الأوائل كانوا أوروبيين، فقد افترضوا أن أجزاء العالم الأخرى سوف تمر بتجربة مماثلة للتحول الأوروبي، بعيداً عن علاقات القرابة كجزء أساس من عملية التحديث». (ص: 121).
فكرتان حول القبيلة طرحهما الصويان، إن اختلفت أو اتفقت معه، إنما لهما حججهما وثمة من سبقه إليهما، فهو ليس مارق القرية الوحيد، كما يحلو للبعض وضعه، فالقبائل كلها تشكلت في البداية، كما يحاول أن يحلل برتراند راسل من أحلاف الصيد لدى الإنسان القديم (انظر كتابه «أثر العلم في المجتمع»)، فهي ليست جامعة صفاء عرقية، بل إن العلم اليوم يخبرنا عن تاريخ البشر ما يمكنه التخفيف من نرجسيتهم.. لنقرأ مع فرنسيس فوكوياما، نقله العلمي لموضوع السياسة والبيولوجيا البشرية حين يكتب: «النظام السياسي متجذر في البيولوجيا البشرية، وخلافاً لنظريات الفلاسفة مثل جان جاك روسو أو الاقتصاديين المحدثين من المدرسة الكلاسيكية الجديدة، يُظهر لنا العلم الآن أن البشر لم يستهلوا المسيرة بوصفهم أفراداً معزولين عملوا تدريجياً على تشكيل مجتمعاتٍ على مر التاريخ، بل كان الإنسان الحديث الذي ظهر في مكانٍ ما من أفريقيا قبل نحو خمسين ألف عام منظماً اجتماعياً منذ البداية».
إن أي مجالٍ يجب ألا يطغى على الدولة بما فيه المجال القبلي، وهذه فكرة الصويان الثانية، لقد كان للقبيلة دورها ولكن بعضها اندمج في الدولة، والبعض الآخر يجب أن يندمج، أو أن يدمج ضمن مؤسسات الدولة السياسية والقانونية والاقتصادية. هذه الأفكار لا بد من طرحها والنقاش العلمي حولها، أما الصراخ والضجيج إنما يضيفان إلى حجة الصويان، ويخدمانها حول القبيلة والدولة، ويبينان مستوى الانهيار لدى البعض من الهتيفة الذين انتقدهم في حواره الصحافي الثاني الذي تلا التلفزيوني.
باختصار إننا أمام رؤية عظيمة لقائد عظيم، أساسها الأول تثبيت مفهوم الدولة، وهذا ما نريده جميعاً، انتصار مفهوم الدولة على كل شيء... نعم على كل شيء.