بقلم : فهد سليمان الشقيران
في جولة سريعة بأي مكتبة تعثر على عددٍ هائل من كتب تروّج لخطاب السعادة وتزعم اكتشاف سبل الوصول إليها؛ وما كان الخطاب يوماً ينطوي على تأسيس نظري، بل تتراوح الطروحات بين جداول واختبارات، وأخرى تبنى على الخطوات والتمرينات، وثالثة تنطلق من رؤية حزبية أو دينية، ولا ينتهي الأمر عند ترويج المقولات المثالية التي لا تنسجم مع طبيعة تكوين الإنسان المتنازع عليه من نزواته وأدوائه وأعطاله. لذلك لا يمكن لأي موعظة أن تمنع الإنسان من الحزن، أو الغضب، أو الحقد، لكن يمكن للفرد مغالبتها قدر الإمكان، فمن الجنون الحديث عن البياض والكمال والطهر بينما الإنسان خلق بنزعاته ونقائضه ونقائصه.
والعجيب أن بعضهم يروّج لمعانٍ ليست من أصالته هو، والآخر في طرحه إنما يحاول توحيد مفهوم السعادة، إنه لمن الجهل المريع أن يتشدق البعض بعثوره بعد القراءات على «سر السعادة»، فهذا لا يعبر عن شوه فكري فقط، وإنما يتفه التجربة البشرية في مقاربتها للسعادة.
في الطرح الفلسفي لكل فيلسوف تعريفه للسعادة انطلاقاً من موقع نظريته، من المستحيل لفيلسوف مادي أن يخضع السعادة لتجربة روحية، والعكس صحيح، لذلك يكتب أرسطو: «إن السعادة حسب العامة والخاصة، هي التي تفترض أن العيش الهنيء والنجاح مرادفان للحياة السعيدة، لكن ليس هناك اتفاق قط حول طبيعة هذه السعادة، ذلك فإن تفسيرات الحكماء والجمهور على طرفي نقيض، فالبعض يقر بكون السعادة هي خير بديهي ومرئي، مثل اللذة والثروة، وبالنسبة للبعض الآخر فالجواب مختلف؛ بل إنه يختلف في الغالب بالنسبة للفرد الواحد، فإذا كان مريضاً فإنه يعطي الأفضلية للصحة، وإذا كان فقيراً يعطي الأولوية للغنى، كما أن أولئك الذين يشعرون بجهلهم يسمعون بإعجاب للخطباء الجيدين».
فالسعادة مفهوم متعدد بعدد أنفاس البشر. إن السعادة تكتسب لا نهائية بحثها من شبهها بالحقيقة. كل فيلسوف يفسر السعادة بناءً على التشييد النظري الذي بناه. حين يحدد كانط السعادة بأنها تظهر في: «الخير ذلك الذي يشبع الإنسان في كليته، سواءٌ على مستوى العقل، أو على مستوى الحساسية والنشاط الإنساني»، إنما ينطلق من نظريته في الواجب الأخلاقي، وبإزاء كانط نجد أندريه لالاند يعرفّها بمعيار الغبطة والخير الأسمى، فيقول: «يقصد بالغبطة الإشباع الدائم والتام، إنها حالة مثالية. كما يقصد بها في الطب العقلي المعاصر، النشوة الدائمة، والمرفقة باللامبالاة تجاه الظروف والأحداث الخارجية، كما يرتبط هذا المفهوم بتصور ديني. ويقصد بالخير الأسمى في الفلسفة الإغريقية الخير بامتياز، الذي يكون خيراً في ذاته، والذي تكون الخيرات الأخرى بالنسبة له مجرد وسائل»، ثم يعرج على نظرتي أرسطو وكانط فيكتب: «أما في الفلسفة الحديثة، وعلى الخصوص عند كانط، فإن الخير هو ذاك الذي يشبع الإنسان في كليته، سواء على مستوى العقل، أو على مستوى الحساسية والنشاط الإنساني».
يمكن لأي طالب أن يقرأ عشرات المقاربات والتعريفات للسعادة في الخطاب الفلسفي في كتيب مثل: «دفاتر فلسفية - السعادة» عناية الأستاذين: محمد الهلالي، وعزيز لزرق، والغرض من ذلك أن السعادة جزء من تجربة الحياة أولاً، ثم من صياغة كل فردٍ لحقيقته ثانياً، ثم لكل شخصٍ ونظريته الأخلاقية ثالثاً.
يمكن للسعادة أن تبدو للإنسان في المكانة التي يلهث وراءها، بحسب عنوان كتاب آلان دوبوتون: «قلق السعي إلى المكانة - الشعور بالرضا أو المهانة»، والهدف من عنوانه لكتابه ملاحظته أن ذلك القلق أساسي في التدافع البشري. لنأخذ من شرحه حين يقول: «إن فوائد المكانة العالية نادراً ما تقتصر على الثروة. يجب ألا نفاجأ حينما نجد أن كثيرين من الموسرين بالفعل يواصلون مراكمة أموالٍ لن يفنيها إنفاق خمسة أجيالٍ تالية عليهم. قد نعتبر مسلكهم غريباً فقط إذا أصررنا على التبرير المادي وراء السعي لاكتساب الثروة. فبقدر ما يجمعون من مال، يسعون وراء الاحترام الذي يبدو مستمداً من عملية جمعه. قليلون منا قد يعتبرون بكل وضوح عشاقاً للجمال والترف، ولكن جميعنا تقريباً جوعى للمنزلة السامية؛ وإذا وجد مجتمعٌ في المستقبل يمنح الحب مكافأة على مراكمة أقراصٍ بلاستيكية صغيرة، فلن يمر وقت طويل قبل أن تكتسب تلك الأشياء عديمة القيمة مكاناً مركزياً من مشاغلنا وطموحاتنا الأشد حماسة».
قلتُ: حتى سخاء اليد، المندوب في وصايا الخلفاء والقادة لخلفهم إنما مرده لتثبيت المكانة العالية؛ فمن الممتنع اكتمال صورة مهما بلغت من فروسيتها إن لم تعرف بكرم النفس وسخاء اليد، والكرمُ مرده ذاتي، فالكريم إنما يسعى نحو مكانته، فالمحرك الأساسي للإنسان سعيه نحو المكانة.. هذه هي خلاصة نظرية بوتون.
وعليه؛ فإن الخطاب المبتذل للسعادة وتحويلها إلى سلعة للتكسب والتزيد لا بد من مواجهته بالنقد؛ فهو خطاب مفضوح وهو على ضربين؛ الأول: التباهي الشخصي باكتشاف حقيقة السعادة باعتبارها نتيجة اتباع مسلك معين أو امتثال هذه الحقيقة أو تلك، وهذا مطروح في كراريس الوعاظ غالباً، علماً بأن الاتباع لوحده لا ينجي من التعاسة، فقد أورد ابن القيم وغيره نماذج لأئمة غشتهم آثار الكآبة وغشتهم الأدواء النفسية وهم من هم في مدارج السالكين، ومع كل تدينهم واتباعهم غير أنهم يغلون من داخلهم باحثين عن الراحة والسعادة، ويلحون على الله بأن يسلل سخائم صدورهم مما علق بها من ألم وضر.
أما الضرب الثاني فهو دعائي، ولن أستشهد بنماذج الجهلة في السوشيال ولهم منصاتهم الإعلامية، بل وقع في الفخ عدد من الباحثين ومنهم الفرنسي فريديريك لينوا، مع حذره ودقته، وقد أشرت إليه في مقالات نقدية لخطاب السعادة منها: «السعادة الضائعة بين الآيديولوجيا والتسويق» و«مآزق تسليع خطاب السعادة» فهو ينتقد التفسير العشوائي للسعادة في كتابه: «في السعادة رحلة فلسفية»، ويفرق بين السعادة والفرح في كتابه: «قوة الفرح»، ومثل ذلك الضرب الدعائي متوفر في الوسائط والمنصات ويجد رواجه بين البسطاء والطيبين.
يمكن للقارئ الانتباه من هذه الخطابات الآيديولوجية والتسويقية للسعادة؛ فالهدف منها تضليله عن الحقيقة التي ينشدها، إن السعادة قد تجدها في الحب، أو المال، أو الدين، أو الصداقة، أو الجمال، لكن يجب أن تعثر عليها أنت بتجربتك من دون الاضطرار للإنصات لمعاتيه المثقفين والوعاظ في السوشيال ميديا ووسائل الإعلان والإعلام. إن سعادتك نتيجة لحقيقتك وهذا كله تعثر عليه أنت بمفردك.