بقلم : فهد سليمان الشقيران
برحيل الداعية والخطيب الكويتي أحمد القطان، تطوى صفحة مليئة بالأحداث والصراعات والنزعات الإسلامية التي كان أحد نجومها في عقدي الثمانينات والتسعينات. داعية لقّبه أنصاره بأنه خطيب الدفاع عن المسجد الأقصى، وكانت أشرطته توزّع على نطاقٍ واسع بالخليج، واشتهر بتبني مشروع الصحوة الإسلامية في الخليج، فهو مع آخرين شكلوا فريق خطباء له جمهوره في الخليج، حاله كعبد الحميد كشك بمصر، وعائض القرني وعبد الوهاب الطريري في الرياض. الموضوعات التي تناولها تراوحت بين الأفكار الصحوية السياسية مثل قضية فلسطين، وله مجموعة مؤلفات عن هذه القضية كما في مجموع سيرته الذاتية. وأذكر أن من أخطر ما طرحه القطان هو حول «العفن الفني»، فالخطباء تداولوا هذا الموضوع وكرروه وأشاروا إليه.
والصحوة معروف أنها تضم مجموعتين؛ أولى منظّرة على طرازٍ عالٍ من الخطورة والتأثير، مثل سفر الحوالي وسلمان العودة، ومن الجيل الذي تلاهم عبد العزيز الطريفي، ومجموعة أخرى خطابية دعوية وعظية، تنوّع على خطاب المنظّرين الأصليين، وهذا معروف ومشهود عبر تاريخ الصحوة القديم والحديث.
الرحلة التي ضمت من ضمن من ضمت أحمد القطان كانت شاقة، وأدت إلى نتائج كبيرة. ومما عزز المشكلة أن الحكومات العربية والإسلامية كانت ضمن حفلة مزايدة حول قضايا يستغلها الصحويون، ومن ذلك «التغريب». بعض الحكومات كانت تنافح ضد التغريب، كذلك قضية فلسطين بالطبع، والثالث موضوع المقاومة أو الجهاد أو الاستعداد للقتال، وهذا بتغطية رسمية سياسية، ثم مؤسسية سلفية، ومن ربح المشروع كله هم الصحويون؛ حيث سيطروا على سياسات العمل الدعوي، وعلى صناعة الإعلام، وحتى على محلات الفيديو التي انقلبوا عليها وانتقلوا بها نحو معارك أفغانستان والبوسنة والهرسك، وأشرطة «عشاق الشهادة»، و«بدر البوسنة»؛ بل وحتى أفلام الكارتون رسخت للدعاية العثمانية، مثل «محمد الفاتح»، وغيره من الشخصيات المفضلة لدى الحركيين والأصوليين.
لو تأملنا، فإن التحوّل ولو كان جزئياً من الصحوة إلى رحاب الدنيا والحياة، كان يضم الصف الثاني من الصحويين، بينما الصفّ الأول المنظّر العتيد فإنه لا يتراجع ولا يتغير؛ بل ينسق في التكتيك وينوع في الأسلوب، وهذا هو الفرق بين الخطاب الصحوي في التسعينات عنه في زمن ما عُرف بـ«الربيع العربي» والثورات العربية أو الانتفاضات. كان خطاب الرموز الصحويين أقل حدة من الناحية الدينية. انتهى جلد المجتمع بالأحكام موضع الخلاف، صارت بوصلتهم نحو الحكومات مباشرة. في السابق كانوا يستخدمون قضايا بوجه الحكومات؛ لكن الفرق أنهم بعد «الربيع العربي» صاروا يواجهون الحكومات مباشرة؛ بل إن داعية مثل سلمان العودة كان يسخر من مشروعات التطوّر في السعودية بطريقة غاية في الاستفزاز، وممعنة في التمسك بالتخلف.
حتى على مستوى الخطاب، صارت مرجعيات رموز الصحوة أكثر حداثة، وهذا له قصده السياسي، بدلاً عن صمّهم لآذاننا بأسماء: سيد قطب، والجندي، ومحمد قطب، والصاوي، وفتحي يكن، وغيرهم، بدأوا يجدون ضالتهم في فهمهم المنقوص لوائل حلاق، ومحمد الجابري، وآخرين، ويأتي بدرجة أكبر من يكتب وسط حفاوة أكاديمية عن أفكار كبرى، وهذه نقطة تلاقٍ بين الصحويين و«الإخوان»؛ بل ويمكنها أن تدافع عن العلمانية كما يفعل شيخهم راشد الغنوشي. وقد كتبتُ من قبل ورقة علقت فيها على الأكاديمي الدكتور خالد الدخيّل الذي احتفى بمقولة الغنوشي حول العلمانية. يكتب الدكتور خالد: «يشير كلام الغنوشي إلى ضرورة التخلي عن المفهوم السائد للدين وعلاقته بالدولة في الإسلام، باعتباره موروثاً عن عصور إسلامية خلت ولم يعد ملزماً؛ لأنه كان اجتهاداً فقهياً فرضته ظروف ومعطيات تلك العصور، وأنه لا بد من اجتراح مفهوم جديد يستجيب لظروف العصر، ومستمد في الوقت نفسه من القرآن. ينطوي كلامه على أن هذا المفهوم الجديد يستند إلى تمييز الفضاء العام للدولة عن الفضاء الخاص للفرد، وضرورة الفصل بينهما. فالإيمان أو المعتقد الديني وما يفرضه من اعتقادات وعبادات يتعلق حصرياً بضمير الفرد وحقيقة إيمانه، ومن ثم بعلاقة الفرد بربه الذي يملك الاطلاع على ضمير الفرد وعلى حقيقة إيمانه. بناء على ذلك لا يقع المعتقد الديني للفرد ضمن علاقته بالدولة؛ بل ضمن الفضاء الخاص به. يؤكد ذلك أن المكلف في الإسلام الذي ستقع عليه مسؤولية الحساب يوم القيامة بناء على هذا التكليف هو الفرد وليس الجماعة أو الدولة. يشير الغنوشي إلى أن التكليف وما سيترتب عليه من حساب يتطلب توافر الحرية من أي إكراه في هذا الموضوع. يقول: (الذي يفتقد حريته، لا حرية له ولا دين له، كالذي لا عقل له لا دين له، فمن فقد حريته فليس مكلفاً بالشرع. وبالتالي لا نرى أن من مهمة الدولة أن تفرض نمطاً من الحياة، تفرض نمطاً معيناً وتتدخل في ملابس الناس، تتدخل فيما يأكلون وما يشربون)، ويدعم رأيه هذا بآيات مثل (لا إكراه في الدين)».
مشكلة كثيرين، ومنهم الدكتور الدخيّل، أنهم يتعاطون مع التصريحات التي تدلي بها الحركات الأصولية باعتبارها وثائق نهائية على الطريقة العلمية في البحوث، بينما هي وسائل مراوغة، واستراتيجيات نفوذ، لذلك ليس صحيحاً أن الغنوشي سيقوم باحترام مفهوم العلمانية، حتى يعلّق الدخيل قائلاً: «بهذا تكون الحركة بدأت بنفسها بأن فصلت الديني عن السياسي في دورها ووظيفتها في الدولة التونسية الجديدة. وهذا انقلاب فكري وسياسي كبير من داخل التيار الإسلامي ستكون له آثار وتداعيات كبيرة على التصور الإسلامي لمسألة العلاقة بين الديني والسياسي في هذه المرحلة؛ خصوصاً فيما يتعلق منها بمعضلة العلمانية وحرية المعتقد. أين من هذا موقف (الإخوان المسلمين) في مصر، أو الجماعة الأم؟».
لذلك، فإن تراجعات الصف الأول من الصحويين والحركيين مستحيلة، بينما الصف الثاني مجرد مروّج للأفكار الأساسية الكبرى التي يطرحها المنظّرون الحركيون. وتراجع القطان أو نبذه لبعض أفكاره وفتاويه السابقة، إنما يأتي ضمن تراجعات الصف الثاني من الدعاة الحركيين و«الإخوان»، ولهذا مجال لا تتسع له هذه المساحة.