بقلم : فهد سليمان الشقيران
في عددها الأخير نشرت مجلة «شواطئ» الصادرة من أبوظبي، عدداً غاية في الجمال والأهمية، ومن ضمن فصول المجلة ما عنونتْه بـ«العلامات التجارية تتجه نحو الرقمنة»، أتت بأسس العديد من الماركات، سأضرب مثالاً واحداً عن علاقة الماركات بالثقافات والنظريات.
ساعات حديثة من ساعات «ريتشارد ميل» وهي شركة سويسرية متخصصة بالساعات الفائقة تأسست عام 2001 كتبت المجلة في مقدمة الملف: «أدى انفجار كوني في اللحظات الأولى لنشوء الكون إلى تحويل حيز فارغ إلى مجموعة متعددة الألوان من المجرات الدوامة. انطلقت فكرة التصميم كما تقول سبيسل غينا مديرة الإبداع والتطوير في العلامة التجارية برمتها من رؤية عن انفجار نجوم في الظلام الدامس لقد أردنا إعادة النظر في منهجية الترصيع بالأحجار الكريمة التي نتبعها لتسخيرها في جمع العناصر معاً بصورة مكثفة». ثم ألحقت المجلة بالملف صوراً للساعات التي يشبه تصميمها الانفجار الكوني. تلك قصة من قصص علاقة الماركات بالنظريات والفلسفات.
قلتُ مراراً إن الماركات تؤثر على حركة الحياة البشرية، وتخطّ الخيالات والأحلام، وهي مرتبطة بمستوى القدرة على الامتلاك أو الاستهلاك، وتوشك العلامة أن تطمس هوية لابسها، باعتبارها قيمة بديلة عن الذات وقدرها، أكثر من كونها قيمة إضافية، والإشعاع الذي يحدثه الامتلاك للماركة فيه خواء، ذلك أنه شراء لوهج مادي خارج قدرات الذات وطاقاتها، أو إبداعات الفرد وخلقه، وبها يغرق الإنسان بطوفان من العلامات التي تطارده بسحر أشكالها وأصنافها، من ملابس وسيارات ومقتنيات شخصية ثمينة، حبائلها مغرية، ولها شبكة من الإملاءات التي توقع الناس بحالٍ من التنافس الرمزي، إذ يتحول الواقع إلى مسرح عرض يتبارى فيه الخاوون بالماركات المقتناة، لتتحول الحالة الاجتماعية إلى معركة مستمرة للتغلب على الآخر بإبداء القدرة الشرائية، عبر تصعيد الاستهلاك، رغبة في اكتساب قيمة ذاتية من خلال مادة مقتناة، وهذه ذروة الإفلاس.
تفرض سيميائية الماركة ضرورتها البحثية باعتبارها سمة العصر، والثمين منها بات جزءاً من آمال وأحلام الجموع بأصقاع الأرض، ويمكن العودة إلى بحثٍ أساسي لـ«بول ماننج» بعنوان: «سيموطيقيا الماركة» يمهد في مدخله إلى أطروحة «المكدنلة» نسبة إلى مطعم الوجبات السريعة باعتبارها جزءاً من أدوات السيطرة ليس على المستوى السياسي، بل من خلال وضع شبكة على أكبر عدد ممكن من البشر لاصطيادهم ضمن حالات تطقيم السلوك، وتنظيم الروتين العالمي على نمطٍ واحد، وهو ما يحلو لنقاد العولمة، لوضعها ضمن خطط الرأسمالية العالمية، من مثل أطروحات (مدرسة فرانكفورت) ثم يعود لوضع ماركات الكولا ونايك ضمن ما يسميه «ميلر» جوانب ما بعد الرمز، وبالنسبة إليه: «فالماركة محطة دخول امتيازية إلى موضوعاتٍ متنوعة بوصفها عملية جعل عوالم الحياة اليومية مادية في الاستهلاك أو تجعلها مصدراً لثقافة ثانوية للموضوعات والأزياء والأذواق، أو تجعلها مظهراً لأشتات تناقضات الرأسمالية الدولية المعاصرة، أو تجعلها مجرد اختزال لخطاب تحليل نفسي للرغبات والغرائز».
الماركة الاستهلاكية اليومية، أو الآسرة الثمينة النخبوية تجر الناس بالسلاسل إلى خوض حروبٍ اعتباطية، مع عمل المنتج الدائم لإدراك شبكات الارتباط الذهنية والرمزية بين الناس، في الشوارع يتخاطب الناس بشكلٍ صامت من خلال سياراتهم، أو ساعاتهم، أو ما يضعونه على ثيابهم من قطعٍ مرقومة أو منقوشة باسم علامة، وكذلك الأمر في المناسبات والأسواق بين النساء، إذ تصبح السجالات الصامتة أبلغ من الحديث والصراع، وذلك عبر الشنط والأدوات الشخصية والعلامات التجارية، وهذا جزء من عمل المنتج أن يقيس شبكات الارتباط ومفاصل الصراع بين كل المستهلكين على الأرض.
وبالنسبة لـ«فيري جادنروليفي» فإن «المنتج والماركة يشكلان توأماً امتيازياً، يتم التعبير عنه في تعويذات التسويق الشائعة على أنه منتج تم تصنيعه في مصنع، والماركة يشتريها مستهلك وبوصفها تعويذات، كما يظهر هذا، فإن تعريف الماركة يتطور مع الزمن على أنها نوع من التصوف عبر ما هو سلبي، تعرف نفسها ليس عن طريق القول: ما الماركة؟ وإنما عن طريق ما ليست عليه، وبدرجاتٍ تتحرك الماركة من كونها امتداداً رمزياً للمنتج أو كما يسميها ديفيد أوجليفي – أحد شيوخ تشكيل الماركة عام 1955 – المجموع غير المحسوس لمزايا وصفات المنتج، اسمه وطريقة تعليبه وسعره وتاريخه وسمعته والطريقة التي يعلن بها عنه في الإعلانات».
ليست المسألة أن نهجو الماركة، أو نجعلها باطراد ضمن إفلاس شخصي، بل لا بد من وضع أدوات فهم قبل التورط في أمواجها المتلاطمة، والحذر من طمس الذات، وتفتيت مركزية الإنسان بهذا العالم لجعل الماركة والعلامات واللوحات والثيمات هي المحركة له والمحتلة لعقله، وألا تكون الماركة هوية بديلة، أو اسماً آخر للإنسان دون اسمه وقيمته وذاتيته وفردانيته، وأن يحصن نفسه من الانضواء تحت الجموع الغارقة باليوميات العادية الاستهلاكية، ما يعتبرهم هيدغر ذوي الوجود الزائف، الهارب من «الوعي بالوجود»؛ يغدو الواقع مدججاً بالبشر اللاهثين وراء صور وصيغ وعلامات، من دون أي اعتبار للوعي الذاتي والوجودي، وصقل الإنسان نفسه بالعلم والتجربة والأسئلة.
الماركة جزء من خيال الإنسان ونظرته للوجود والحياة.