بقلم : فهد سليمان الشقيران
انشغل داريوش شايغان بالهوية وتقلباتها طوال حياته. كثير من التعليقات والمحاضرات، فضلاً عن الكتب والمؤلفات، خصّها لهذا الموضوع شديد التعقيد. شغله الاضطراب الذي رآه في العلاقة مع الغرب منذ وقتٍ مبكر، ما جعله يخصص مساحة لا بأس بها للحديث عن الهوية محللاً ومعرّفاً ومراقباً لتحولاتها، لدينا بالعربية كثير من الكتب لشايغان حول الهوية، منها «أوهام الهوية»، «هوية بأربعين وجهاً»، «الهوية والوجود».
أشير في البداية لملاحظة ربما تختصر رأيه في الاضطراب مع الغرب، أوردها في كتابه «أوهام الهوية»، يقول: «هذه مداخلة نقدية سأتلوها عليكم إزاء هذا الغرب الذي أحب، والذي أدين له بجانبٍ كبيرٍ من تكويني الفكري، والذي علمني كيف أفكر، كيف أطرح القضايا وكيف أسائل الأشياء. وسأكون نقدياً إزاء هذا الشرق الذي تضيق رقعته الجغرافية شيئاً فشيئاً، والذي أنتمي إليه وأحس بحضوره كأرضٍ منسية في أعماق نفسي. ربما لا أنتمي إلى هذا ولا إلى ذاك، وربما أكون مشابهاً لإخوتي، مشردي الغرب، الذين يجوبون شوارع العالم بحثاً، والله أعلم، عن دواءٍ لداءٍ لا يشفى، لستُ أدري. لكنني أعرف شيئاً. أعرف أننا رغم المسافة التاريخية التي تفصل بيننا وبينكم مسافرون جميعاً على مركبٍ واحد». (ص35).
لم يفصل شايغان بحثه في الهوية عن «التقنية» و«الاختلاف»، وللتدقيق في مسار بحث الهوية عنده أحيل لبحثٍ مهم بعنوان «إشكالية الهوية والاختلاف عند داريوش شايغان» من كتابة الأستاذ حبطيش وعلي، نشرته مجلة «حكمة»، وفيه يضع شايغان بإزاء دلوز حين يقول: «يستند شايغان في تحليله للهوية الريزومية إلى أطروحات جيل دولوز (1925 - 1995) ولقد أخذ منه هذا المصطلح، وفيليكس غاتاري (1930 - 1992). ونقد شايغان مفهوم الهوية النقية الأبدية الساكنة، وأحادية البعد المغلق، فعمل على تفكيكه ونقضه وتقويضه ثم صاغ مفهوماً آخر للهوية، مشتقاً من عصرنا وما تسوده من أنطولوجيا مهمشة وتزامن للثقافات المتنوعة، وكيف أمسى العالم في هذا العصر شبحاً، اصطلح عليه الهوية بأربعين وجهاً، وهي هوية مركبة ومنسوجة من شبكة من الترابطات الدقيقة، وكأنها ثوب يخاط بأربعين قطعة من قماش ذي ألف لون، ذلك أن التعددية الثقافية واختلاط القوميات وتمازج الأفكار والتهجن المطرد، كلها ظواهر تجعلنا مستعدين لهوية مركبة، وأن الهوية النقية لم يعد لها وجود موضوعي بسبب انهيار العوالم المؤسسة لها، ثم إنها تكبلت بقيود ثقافية نقية وخالصة كما تسمى، فستؤول غالباً إلى تحجر الهوية وكل هوية على كل حال تركيبية وكيان هجين، يحمل ترسبات كل الأشكال والطبقات النفسية، وكلما كانت هويتنا الأولى عرضة للتمزق، لذنا بقوقعتنا أكثر، ويعتقد شايغان أن الإنسان المعاصر ما عاد قادراً على حفظ كينونته داخل حدود هوية معينة، فكلما شددنا على هويتنا، وكلما رفعنا أصواتنا بالانتماء لهذه الجماعة أو تلك الأمة، أفصحنا عن هشاشة هويتنا أكثر من ذي قبل. إن معاناة الإنسان اليوم من أزمة هوية مردها إلى أن الهوية لم تعد مجموعة رتيبة من القيم الثابتة المطلقة».
«الريزوم» لشايغان، و«الجذمور» لدلوز، مفهومان متقاربان، يضيف الباحث حبطيش وعلي: «الريزوم تشبيه بليغ لمعنى الهوية، فالجذمور متعدد بطبيعته، وتعدديته متحررة من كل قيود الوحدة والمركزية، فالنظام القائم على تعدد القطع يمثل رزوماً يختلف عن الجذمور وتفرعاته. فهو عامل الترابط والتوليد، وبمقدوره صناعة شبكة غير متناهية، فكل نقطة منه بإمكانها التلاحم مع أي نقطة أخرى منه، حتى لو كسر أو تمزق بوسعه استئناف حياته والنمو في جهات أخرى. ومع أنّه متكون من طبقات وبحاجة إلى مكان إلا أنّ بمقدوره الانفصال عن الأرض والسير عليها، وإيجاد شبكات ارتباط جديدة. باستطاعة الجذمور أن يربط بين أنظمة جد متفاوتة، بل غير متجانسة، فهو لا يتشكل من وحدات مختلفة، بل من تجمع جهات متباينة، أي إنه بلا بداية ولا نهاية، وهو في الطريق دوماً، فماهيته تتغير بلا توقف، فهو إذ يعيش استحالة أبدية، ويختلف عن الشجرة في أنه ليس من نتاج التلاقح، إنما هو عدو الأنساب، ذاكرته قصيرة، بل يمكن القول إنه ضد الذاكرة أيضاً».
يبدو شايغان متأملاً في حالات التمزّق التي يعاني منها المدافع التقليدي عن الهوية، كما يحلل في الفصل الرابع من كتابه «أوهام الهوية»، ويتطوّر تشريحه لاضطراب تحليل الهوية في كتابه «هوية بأربعين وجهاً»، ونتطرق لأحد النصوص المهمة والشارحة لنظريته حول الهوية. يقول في فقرة عنونها بـ«الأربعون جزءاً (وجهاً) ومبدأ عدم اجتماع النقيضين»: «إذاً الفضاءات التي تصنعنا فضاءات متنوّعة غير نقية. لم تعد جذورنا واحدة، ولم نعد نعيش وحدنا في أرضٍ مغلقة، إننا ريزومات متصلة بالآخرين، وثقافاتهم وعوالمهم، ومداركهم المتنوعة. هذه الحال تجعلنا حلزونات تحمل بيوتها على ظهورها، بمعنى أننا ننمو في فضاءاتٍ مفتوحة، وأسلوب حياتنا يحدد طبيعة رؤيتنا، إننا بحسب الأواصر التي ننشئها مع المجالات الثقافية، نستطيع التموضع في المكان بمناحٍ مختلفة. ولم يعد إنسان العصر متحرراً من هذه الاصطكاكات والتمازجات والتداخلات، التي يمكن أن يقال أنها أصبحت اليوم طريقة وجودنا في العالم. إن أسلوب الارتباط بالمكان يجسّر العلاقة بيننا وبين الهويات الأخرى، فنحن إذ ننجذب... العبور من تقاربٍ إلى تقارب آخر ممكن الحصول كما أشرنا بما لا نهاية له من الطرق. كلنا قطع مكونة من 40 قطعة تخاط باستمرار، أو قل مجاميع غير منتظمة ملتصق بعضها ببعض، والتصاق بعضها ببعض أفقياً أسهل بكثيرٍ منه عمودياً». (هوية بأربعين وجهاً) - (الصفحات 122 - 123).
بمعنى آخر، الهوية لدى شايغان ليست بعداً ثابتاً، وإنما كما في مفهومه المهم «الريزوم» أنها بلا بدايات، تتصل وتنفصل، تقترّب وتزيح، إنها قابلة للتشكل للارتباط والانفكاك، إنها نتاج كل التشويش، والهوية قد تألف التناقضات، فهي مع غيرها تتآلف بقدر ما تتخالف، وربما سارت وتعالقت مع شتى التفاوتات والأنماط غير المألوفة، والوحدات غير المتجانسة، هكذا توحي لنا شروحات شايغان.
القضاء رجل العام في لبنان!