بقلم : فهد سليمان الشقيران
تحمل أحداث الطيونة معها كل يوم المزيد من النّذُر؛ معركة «حزب الله» الخاسرة ضد الأهالي والعُزّل تخمرت في نفوس المعتدين لتتحول إلى أفكار مجترّة ومهولة للانتقام، خطابات نارية، وإشارات تهديد مافياوية، ولعنات سياسية، إنها بداية استثنائية لمعركة لن تكون سهلة على «حزب الله»، العديد من الزعماء يتمنون لو أنهم امتلكوا شجاعة حزب القوات اللبنانية الذي وقف بوجه الشر وقفة صمود تاريخية، ولكن على قدر أهل العزم تأتي العزائم.
إن أحداث الطيونة هي ذروة حدثية ساهم في انفجارها سياق تاريخي كامل، منذ الاتفاق الشيعي (الإيراني) مع الجنرال ميشال عون، اتفاق مارمخايل يعطي المشروعية الاجتماعية والثقافية لـ«حزب الله» أن يكتسح ما تبقى من ملامح مسيحية في لبنان الكبير، وقد كانت الصفقة من «حزب الله» لعون ببساطة كالتالي: «لكم الرئاسة، ولنا الجمهورية»، وهو اتفاق يورث هذا التعهد لصهره جبران باسيل. ومشهود عبر التاريخ أن إبرام عقدٍ مع إنسان شرِه أسهل منه مع سياسي له مشروعه ومبادئه وأسسه التي لن يتنازل عنها، وكان الاتفاق بمثابة إعلان نهاية لبنان الذي تعرفونه، وأن المسيحي عليه الانصياع للقوة الإيرانية، وأعلنها باسيل بصراحة، أن التيار الوطني الحر بات اليوم في محور إيران، وتغزّل كوادره بالسجاد والفستق والشجر بإيران (!) لنتخيل أن التيار المسيحي الذي دوّخ اللبنانيين على مدى عقود بمؤلفاتٍ وندواتٍ ومحاضراتٍ عن «علمنة لبنان» آل به المطاف ليتحالف مع أكبر دولة ثيوقراطية في العالم، يقودها رجال دين معقدون، يحتقرون المرأة، ويعادون العلم، وينشرون الموت، يتحالف تيارٌ بأكمله مع هذه الثقافة المهترئة المتهالكة المتطرفة.
ضمن ذلك التاريخ، وضمن صفقة لكم الرئاسة ولنا الجمهورية، جرت مياه كثيرة في مدن وأحياء ومناطق لبنان، تمكّن فيها «حزب الله» من مفاصل القرار، ومن تحويل البلد بأكمله إلى ملحق مهشّم يتبع إيران، واللعنة في تجذير الهوية الإيرانية بمعناها الكامل في قلب بيروت؛ لذلك لم يكن «الزحف المقدس» من قبل ميليشيات «حزب الله» على عين الرمانة خالياً من شوائب الإرث القديم، كما لم يكن بريئاً من التهديد بتغيير التركيبة الديموغرافية المسيحية في تلك المناطق، كما أجرم في مناطق نفوذ السنّة في بيروت بمجزرة «حزب الله» ضد أهالي بيروت بأحداث 7 مايو (أيار) 2008 فعل «حزب الله» باللبنانيين ما لم تجرؤ إسرائيل على فعله. وعليه، فإن ردة فعل الأهالي على اجتياح «حزب الله» لمناطقهم وسط شعار «شيعة... شيعة» كان عادياً وطبيعياً يأتي ضمن التدافع البشري المعتاد، وفي الفقه الإسلامي يُعرف هذا الدفاع عن النفس بمسألة «دفع الصائل» فمن حق المعتدى عليه أن يدافع عن نفسه وعن عرضه وأهله وبلدته بوجه البرابرة الغزاة.
وبعد تلك الغزوة الهمجية نكص «حزب الله» ومعه حليفه في «أمل» على عقبيه وقال إني بريء، وتفجّرت طاقته عن تمثيل فائق بدور المظلومية المحض، صحيح أنه هُزم وضرب وتم جلد كوادره جلد غرائب الإبل، ولكنه هو من بدأ المعركة ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها، توجه «حزب الله» نحو «التحقيق» بهذه الحادثة، لا بأسلوب مدني وحضاري، بل بطريقة انتقامية، ليته طبق في جميع جرائم «حزب الله» باللبنانيين، علماً بأنهم لم يسلّموا قاتل رفيق الحريري، ولم يمثُلوا أمام القضاء لتفسير «مجزرة بيروت 2008»، ولم يسلّموا عشرات القتلة بقضايا سياسية واجتماعية، لكنهم اليوم عادوا إلى مربع القانون بغية الانتقام الأجوف من حزب القوات اللبنانية الذي ينفي أن يكون له أي صلة بالحادث. «حزب الله» مرعوب أن تكون أسلحة الأهالي العادية هي التي هزمته، يريد أن يضع لهزيمته منتصراً كبيراً مثل حزب القوات، ولسان حال الحزب «هذا شرفٌ لا ندعيه».
هبّت فجأة مخابرات الجيش اللبناني وتمخض ضغط «حزب الله» عن طلب السماع لسمير جعجع، موقف يبين مستوى اختراق «حزب الله» للجيش، وهو اختراق مشهود ومعلوم؛ إذ يسيطر عدد من المناصرين لـ«حزب الله» على مفاصل أمنية واستخبارية في الجيش اللبناني ونفوذهم داخله آخذٌ بالتصاعد، الموقف من هذا الطلب وضح للزعماء الصامتين أو الآخذين موقعهم من المنصة للفرجة، الحريري وجنبلاط أصدرا موقفين متشابهين، إذا كان ثمة استماع لشخص، فلا بد من الاستماع للجميع؛ فالمعركة لم تكن بين طرفٍ واحد مع نفسه، بل بين طرفين اثنين، وفي كل قوانين وشرائع العالم حين تحدث مشكلة يتم الاستماع للطرفين، فلماذا يتم استجواب زعيم الحزب المدني العلماني «المدنس» بينما لا يتم استجواب زعيم الحزب الإلهي الإرهابي «المقدس»؟! وذكّرنا جعجع بمعلومة مهمة، أن «حزب الله» لم ينل رخصة تجعل منه حزباً مصرحاً في لبنان، فهو علاوة على كونه حزباً إرهابياً فهو غير مرخص أيضاً.
هذه الصيغة في السماع التي طلب إليها جعجع تبين مستوى الانهيار المؤسسي الذي سببه أداء الحزب الحاكم، التيار الوطني الحر الذي تسلم رئاسة الجمهورية، إن البيع والشراء بلبنان وموارده ليس نقيصة في نظر البعض، ما دامت المكاسب الشخصية تتضاعف وتزداد. لقد تابعت العديد من ردود فعل الجيل الشاب الثائر في لبنان، عدد لا يستهان به أخذ مواقف جعجع في عين الاعتبار باعتباره أقرب الزعماء لأحلام «ثوار تشرين»، وستبين الأيام إن كان ذلك سينعكس إيجابياً لصالح «القوات» في الانتخابات أم لا، ولكن لا شك أن أحداث الطيونة فرزت بشكلٍ واضح وصريح بين أهل الحق والقوة والعدل، وبين القتلة صناع الفتنة وقادة المجازر باسم الدين والإسلام، وبالتأكيد سيختار اللبنانيون العتاة شعار الحياة لا ثقافة الموت.