بقلم : فهد سليمان الشقيران
برحيل الشيخ صباح الأحمد الصباح تفقد المنطقة أحد كبار الدبلوماسيين والساسة. طوال عمره السياسي كان مؤثراً ولاعباً مهماً في سياسات المنطقة ومواجهاً تحدياتها.
شهد تشكل الخليج على ما هو عليه، ومنذ يفاعة سنه تسلم مهام سياسية أثبت براعته في إدارتها، صقلت تجربته في الكويت شخصية تسووية، امتازت بها فترة عمله بالخارجية، ولاحقاً سياسة الدولة حين تسلم إدارة شؤون دولة الكويت. ولا يمكن إغفال موقعه بالخليج؛ إذ أخذ دور الوسيط انطلاقاً من عقلانيته وواقعيته، لأنه يعلم مدى تأثير الكويت في الأزمات الخارجية، وضمن الموقع الجغرافي والحدود المتاحة، استطاع وضع ثقله لرأب الصدوع، وقد اشترك الراحل في المبادرة السعودية لوقف الحرب الأهلية اللبنانية، وله دور مهم في توقيع قطر تعهداتها عام 2014 بعد سحب السفراء آنذاك. أما بعد المقاطعة في يونيو (حزيران) 2017 فعرفت مبادرته في الخليج بهدفها الواقعي والمتمثل في الإبقاء على الممكن، ومنه حفظ كيان مجلس التعاون الذي شهد الراحل تأسيسه وخبر مواثيقه وأهدافه، ومنها التئام الخليج حكوماتٍ ومجتمعاتٍ بعضها لصالح بعض، وعدم إضرار دولة أو تآمرها على الأخرى، فضلاً عن إيوائها جماعات العنف والكراهية.
والراحل وجه اعتدال وتسامح. اجتاح العنف الكويت مبكراً... قبل أربعة عقود اختطفت الطائرة الجابرية، وهُدّد أمن أمير الكويت الأسبق الشيخ جابر ونجا من محاولة اغتيال. وعى مبكراً خطورة المد العنيف لأفكار الكراهية، ولم يتوقف عن دعم المؤسسات الدولية المعنية بالحرب على الإرهاب، وكان له دور كبير داخل الكويت لوقف ذلك الانتشار، وقد نجحت أفكاره حول التسامح وعدم الانزلاق في دوامة عنف لا يتحملها بلده. طوال عهده لم تشهد الكويت عمليات نوعية إلا حين تفجرت الأجساد المفخخة من «داعش» مستهدفة التعايش السني - الشيعي في الكويت، وقد غضب الراحل كثيراً وحزن أكثر لما حل بمواطنين كويتيين أبرياء، وزار بنفسه موقع التفجير في مسجد الصوابر، وتعهد بالقضاء على تنظيم «داعش» في الداخل، وشارك مع التحالف الدولي في الحرب على هذا التنظيم في العراق وسوريا، وكان للكويت إسهامها مع الدول الحليفة في الحرب على التنظيم.
منذ اللحظة الأولى لـ«عاصفة الحزم» التي قادتها السعودية في اليمن لإعادة الشرعية، أعلن الراحل عن موقف الكويت الداعم هذا التحالف والمنخرط فيه، وعن موقف ثابت لا يتزحزح عنوانه الوقوف مع السعودية في كل ما تتخذه من إجراءات لحماية أمنها القومي. حاول جهده وضع حد للجنون الحوثي، واستضافت الكويت محادثات، غير أنها لم تثمر نتيجة إيجابية يمكنها أن تعيد الشرعية لليمنيين، وتضع السلاح بيد الدولة وتمنح اليمن الاستقرار، وهو ما جعل آلام اليمنيين تزداد بسبب الجرم الحوثي، الذي يمنع وصول المساعدات الإنسانية ومواد الإغاثة والطبابة.
أخذ الراحل على عاتقه ترسيخ مبادئ أساسية في الكويت قوامها الاستقرار، ومعه التنمية. أراد للخطط التنموية والاقتصادية أن تنجح. تغلب على أخطر التحديات منذ عام 2011 وما بعده حيث تورطت دول محيطة في دعم مظاهرات ومسيرات تستهدف الدولة الكويتية والنظام السياسي، ورغم خطورة الوضع؛ إذ رجحت تحليلات آنذاك أن تنزلق الأوضاع نحو الهاوية لتدخل في نفق مظلم، فإن صرامة القرار وقوة الدولة حفظتا المؤسسات من الانهيار. تحقق لاحقاً الاستقرار التام، إلا من انفلات محدود سرعان ما يقمع، كما حدث حين اكتشفت الدولة «خلية العبدلي» الإيرانية بترسانتها العسكرية، التي كانت ستحدث مجازر لو لم يتم اكتشافها.
كان هدفه الأساسي تجنيب الكويت مخاطر التدخل الإيراني. لقد عرف الراحل أن بلاده في مرمى النيران الإيرانية ومؤامراتها. ركّز على ضرورة اليقظة الأمنية والضربات الاستباقية. عدّ التحالف مع السعودية ضرورة لتوقي الضرر الإيراني؛ ذلك أن الثقل السعودي لديه القدرة على مواجهة ومحاربة إيران بشتى الوسائل، وهذه قيمة مجلس التعاون أن تتنادى الدول بعضها إلى بعض في حالات الخطر القصوى. خاطب إيران بقوة مطالباً إياها، إن هي رغبت في الحوار، بأن تكف أولاً عن التدخل في شؤون دول الجوار، وأن توقف دعم ميليشيات الخراب. ما كان الراحل منادياً بالحوار غير المشروط معها؛ بل وضع لأي تواصل إيراني - خليجي شرط وقف التدخل بكل أشكاله.
لقد ربطته علاقة صداقة وأخوة متينة بالملك سلمان، ولذلك كتب عنه خادم الحرمين الشريفين هذا النعي: «فقدتُ برحيل الشيخ صباح الأحمد الصباح - رحمه الله - أخاً عزيزاً وصديقاً كريماً وقامة كبيرة، له في نفسي مكانة عظيمة وتقدير يستحقه. نفتقده كما يفتقده شعبه، وسيخلده التاريخ؛ إذ كرّس حياته لخدمة بلاده وأمتيه العربية والإسلامية».
مسيرة الكويت مستمرة بفضل الأسس الراسخة التي بنيت عليها الدولة ومؤسساتها، ورغم الرياح العاتية، فإن المجتمع الكويتي يثبت عبر السنين قدرته على تجاوز التحديات بصبر وثبات. هذه هي القوة التي رغب فيها الراحل لمجتمعه ومحيطه ودولته.