بقلم : فهد سليمان الشقيران
لم تنتهِ فكرة انتصار «طالبان» بسقوط النظام؛ بل يعبّر تفوقها عن بدء مرحلة أخرى لها معالمها الآخذة بالتشكل، فـ«طالبان» بأجيالها المتعاقبة توارثت فكرتها الأساسية من جذرها القبلي وهذا أمر معلوم، بل «ومتفهم» لدى سياسي عريق مثل زلماي خليل زاده، الذي يعتبر الانسحاب الأميركي أسوأ من الانسحاب السوفياتي، غير أن التناسل داخل الحركة وإن أبقى على أصل مظلومية البشتون واستثمارهم بهذا في سبيل اكتساب شعبيتهم غير أن نظرية الحركة تأقلمت مع أفكار «الإخوان» بشكل مؤصل أكثر من أي وقتٍ مضى، وآية ذلك أن فكرة حماية أسامة بن لادن وعدم تسليمه لأميركا قبل عشرين عاماً كانت أكثر سذاجة مما تنظر له الحركة اليوم، فلو كان بن لادن بين يدي جيل «طالبان» الحالي لاستثمروا بحمايته بدلاً من تعهدهم بحمايته. إن هذا المثال يوضح النقلة الكبيرة لجيل «طالبان» الحالي عنه في تلك المرحلة القديمة.
وخطاب الحركة المحدث يجعل من المصلحة أساس المساومة السياسية؛ فالغرب ليس عدواً، بل هو منافس لهم بالنفوذ؛ ينتظرون منه الاعتراف بهم، ثم الثقة بهم، ثم الدعم السياسي والمادي، وما عادت الحريات (ولو لفظاً) مما تستنكره الحركة، بل راحت تروّج لحق الناس في الحياة، وأساسية التعدد الفكري والمذهبي بالبلاد، وحق المرأة ضمن شروط اللباس المحتشم، بل وحقها بالخروج والعمل، هنا نعثر على رابطة التلاقي بين «طالبان» وحركات الإسلام السياسي وفي مقدمتها جماعة «الإخوان».
يظهر ذلك جلياً في عدد من الملامح، منها بناء أكثر من خطاب، بعضها موجه للداخل، وآخر للغرب والخارج، ووضع مسافة بين النظرية والتطبيق، ففي الوقت الذي تتحدث فيه الحركة عن الحريات وحقوق المرأة وحماية مؤسسات الدولة، تقوم بمنع صالونات الحلاقة من جز اللحى، ويصرّح وزير التعليم بعدم ضرورة التعليم أصلاً، وتجلد النساء في الشوارع، ويضربن في المتنزهات والأسواق. وخطاب الداخل والخارج معروف لدى جميع الحركات المتشددة، مثلاً يقول الشيخ ذبيح الله في حوارٍ معه: «نحن نتعامل مع الجميع في الداخل والخارج بحسن نية وانفتاح، طالما أن الطرف المقابل يتعامل معنا بالمثل، ولن نغيّر تلك الطريقة إلا في حالة تغيير الطرف الآخر قواعد التعامل المبني على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة».
ونستشهد بـ«حزب الله» الذي يخطب زعيمه عن الدولة ومؤسساتها ومن ثم يضرب بالقانون والدستور عرض الحائط في تناقضٍ فج ومكشوف، كذلك الأمر لدى حركة النهضة بتونس، وتنظيم «الإخوان» بمصر، وليس انتهاءً بالحوثي الذي يحاول انتزاع الشرعية بالقوة ويقوم بإعدامات ميدانية ضد مدنيين عزل. خطاب الداخل عادة يتسم بالقوة والتهديد والبطش والتلويح بالاغتيال، بينما خطاب الخارج يتعلق بالدولة وهيبتها ومؤسساتها وادعاء حماية الدستور.
ويتفق الحركيون ومعهم «طالبان» في مبدأ إخواني براغماتي، حيث يمكنهم إخفاء الشريعة مقابل ضمان الطاعة، فالطاعة تكون مقابل الشريعة أحياناً، كما يفعل الإخوانيون وغيرهم بتحالفاتهم مع غير الإسلاميين في أكثر من مكان، إنهم لا يعادونهم حين تكون فروض الطاعة متوفرة وموجودة، «حزب الله» لا يعنيه الفاسد في الحكومة والدولة ما دامت شروط الطاعة مضمونة، حينها يتجاوز كل الحدود الشرعية إذا كان الفرد أو الجماعة المقابلة قد أدت فروض الطاعة لزعيم الحزب، فيمكن للحزب الحركي أن يجعل الفاسد بمأمن من الملاحقة القانونية، وقد يجعل النزيه تحت طائلة السلاح، انظر المفارقة بين تعامل «حزب الله» مع تجاوزات أعضاء حزبه الحليف التيار الوطني الحر، إذ يمنع محاسبتهم أو ملاحقتهم، بالمقابل يلاحق القاضي الشجاع الذي يحاول إنجاز تحقيقه الجنائي في كارثة مرفأ بيروت، حين تؤدى الطاعة لا حاجة للشريعة، هكذا يفكرون. لنضرب مثلاً بقول ذبيح الله: «أكثر دولة نشعر بتوافق معها هي أي دولة تشعر بتوافق معنا، وليس شرطاً أن توافق على كل ما نقول، بل المهم ألا تعمل على عرقلة أهدافنا في تطبيق (أحكام الشريعة)، وتأكيد استقرار البلاد، ورخاء الشعب الفقير الذي عانى طويلاً من الحروب وعدم الاستقرار، ننتظر من الدول العربية والإسلامية أن تكون عند مستوى حسن ظننا بها ومحبتنا لها، وأن تدرك أن انتصارنا على الأميركيين وحلفائهم هو انتصار لجميع العرب والمسلمين الذين نتمنى أن نراهم يعملون معنا بإخلاص في بناء بلدنا».
تقرأ الصحافية هدى الصالح في مادة نشرت على «العربية. نت» علاقة «طالبان» بـ«الإخوان»، حيث تقول: «ليس بالإمكان تجاهل تهنئة جماعة إخوان سوريا ومصر وإغفال الرابط التاريخي بين الجماعة والساحة الأفغانية من جهة وبين (طالبان) والأحزاب الأفغانية المحسوبة على الإخوان من جهة أخرى، حيث أطاحت حركة طالبان بحكومة برهان الدين رباني في عام 1996 وسيطرت على العاصمة كابل... برهان الدين رباني اغتيل عام 2011 بتفجير استهدف منزله بعد استقباله ضيفين قدما نفسيهما على أنهما من حركة طالبان وكان أحدهما يخبئ قنبلة في عمامته. وتعود بدايات تأثر الساحة الأفغانية واتصالها بجماعة الإخوان المسلمين إلى الدكتور غلام محمد نيازي، الذي عاد من مصر حاملاً شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، والتقى هناك قيادات الإخوان وتأثر بهم وبطريقتهم في العمل المنظم. فعمل عميداً لكلية الشريعة بجامعة كابل وأصبحت الكلية مع مرور الوقت معقلاً من معاقل الحركة الإسلامية، وكان من الذين تأثروا وعملوا معه برهان الدين رباني الذي كان محاضراً في الكلية، وعبد رب الرسول سياف الذي كان طالباً ثم أستاذاً في نفس الكلية».
إن مشهد الحركة الأصولية بعد «طالبان» يعبّر عن تطور في نظرية «طالبان» من سنين الإمارة والخلافة إلى تجارب الحكومة والدولة، والنموذج الأخير هو الأخطر فالانتقال من الدروشة الواضحة إلى نظرية الحاكمية بتفسيرها الأعنف يعني أن الحركة الإسلامية بالعالم في تصاعد وليست إلى زوال، والأيام حبلى بالمزيد.