بقلم : فهد سليمان الشقيران
لن ينتهي الحديث عن الصحوة وسجالاتها وإشكالاتها وتاريخها وأثرها؛ بل الصحوة ذاتها لم تنتهِ، وإنما لاذت بجيوب السوشيال ميديا، ولجأت إلى الكمُون، وهربت إلى الكهوف، فالحركة الإسلامية باقية ما بقي المسلمون، وآية ذلك ما أعلنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن الشبكة الإرهابية التي تخطط للقيام بأعمال دموية لأهداف سياسية، هذا علاوة على الانتعاش الحركي بعد انتصار «طالبان».
الفرق بين الأمس واليوم أن الحكومات وعت بخطر الأصوليات، فأسست برامجها التنموية بيد، وحاربت الصحوة باليد الأخرى، لكن من الضروري الاعتناء والحذر في حال وضع خطابٍ جديد يتجاوز الصحوة وينسي الناس أثرها ونفوذها.
تتفق دول الاعتدال بالمنطقة وفي مقدمتها السعودية على أن الصحوة دمرت المجتمعات، وأعاقت النهوض، وهذا مؤكد، لكن من الخطأ الاستعانة بخطابٍ يحمل ذات الوشوم الصحوية في إرثه التاريخي وسجاله الحركي. لقد تابعتُ كثيراً من القنوات الإسلامية التابعة لدول الحرب على «الإخوان» ووجدتُ خللاً في السياسات المتبعة للحرب على الصحوة، ولعل أبرز تلك الأخطاء الاستعانة بالتيار «الجامي» ورموزه في الفضائيات انطلاقاً من وهمٍ فظيع بأن هذا الخطاب هو المناوئ أو البديل عن التيار الصحوي.. («الجامية» اسم يطلق على قراءة في فقه الطاعة للشيخ محمد أمان الجامي، والطرفان «السروري» و«الجامي» يعتبران هذه النسبة من قبيل التنابز، لكنها صارت تسميات فارزة ومهمة للباحثين).
منذ بداية الاشتباك بين الجاميين وفيالق الصحوة من سرورية و«إخوان» وهم يفتقرون إلى القوة التي تمكنهم من صياغة الخطاب البديل الذي يمكنه التأثير على المجتمع بطريقة لا يحمل معها إرث الصحوة وأدواءها. واليوم مع حضور بعض الجاميين في القنوات يمكن اعتبار ذلك من أكبر الأخطاء المؤسسية، لأن الجامية من الناحية التاريخية والنظرية هي جزء من الصحوة الإسلامية، وإن لم يعِ أتباعها ذلك.
جزء من الصحوة، لأن ما تقوم به من نقد إنما يمثل قراءة داخل الصحوة لتصويبها، لا لنقضها، بدليل أنها تتنازع المشروعية مع السروريين على سبيل الغلبة حتى لو استقوت بالسلطة، بينما الأولى توجيه النقد للصحوة باعتبارها ليست مجرد حركة تحمل مفاهيم خاطئة، وإنما بوصفها ظاهرة إرهابية، وهذا لم يتوفر في الخطاب الجامي منذ بواكير تشكله وتكونه.
والجامية جزء من الصحوة، باعتبارها الوجه المشارك في السجال، فمشكلتهم مع الصحوة ليست في رجعيتها فقط، وإنما في تهاونها في بعض أحكام الشريعة، فحين ينتقد الشيخ ربيع المدخلي حسن الترابي إنما يأخذ عليه «الضلال والفساد الذي لم يعرف السودان مثيلاً له، حتى في أيام الحكم العلماني، من دعوة إلى وحدة الأديان، وتشييد الكنائس، وتكريم النصارى»، وهذه من ثمار الحزبية كما يقول المدخلي، وعليه فإن التيار الجامي يجمعه مع الصحوة الانكفاء على الذات وعدم الانطلاق نحو «الدنيوية»، فالخلافات ليست على المفاهيم دائماً، وإنما في ترتيب الأولويات، وتشغيل الأحكام مثل «تكفير الحكام» الذي ينزع الجامية ضد تشغيله وتفعيله، بينما تستخدمه الصحوة في صراعاتها مع الحكومات.
بالنسبة للتيارين «الجامي» و«السروري» فالآخر معدوم، لذلك طوال العقود الماضية كان الطرفان يقاتلان ضد العلمانيين والليبراليين، انطلاقاً من رؤى حركية وانطباعات عقائدية، فالخلاف بين رموزهم ليس على مستوى المشروع العام (الدولة الإسلامية) وإنما في التفاصيل الصغيرة وأولويات تشغيل الأحكام أو تعطيلها، وأكبر براهين ذلك أن عدداً من رموز الجامية وقعوا في نفس خطأ رموز الصحوة حين خالفوا القوانين وحكم عليهم بالسجن بسبب المروق السياسي الذي استخدموه ضد الدولة، ومشاريعها الحديثة، وهذا عنصر التقاء واضح وبيّن وساطع.
يمكن للقارئ الرجوع إلى كتاب «السلفية الجامية - عقيدة الطاعة وتبديع المخالف»، من مطبوعات مركز المسبار للدراسات، ففيه كثير من التاريخ للسجالات بين الجامية وبقية التيارات. الغرض من هذه المقالة التحذير من معالجة أثر تيارٍ مأزوم، بخطابٍ مأزوم هو أيضاً، لأن الخطاب الجامي هو خطاب ارتكاسي داخل الإرث الصحوي، بمعنى أن التعويل عليه في نشر خطاب ديني جديد أمر غاية في الخطورة والتهور.
ربما يقود الكسل الإداري القنوات الدينية للاستعانة بخطابٍ ظاهره هجاء الصحوة ورموزها، أو نقد «الإخوان» وفلولهم، بينما يشترك معهم في المفاهيم والجذور والأساليب والأهداف، فالجامية جزء من الصحوة الإسلامية ومن تاريخها ومن سجالاتها ومن إرثها وأفكارها، وخطابها لا يمكن اعتباره ذا أثرٍ إيجابي في خلق مناخٍ ديني معتدل ينسجم مع التطوّر والتنمية التي تشهدها المنطقة على كل المستويات، والجامية لا تقتصر فقط على السعودية، بل على امتدادها في المنطقة في الخليج ومصر والأردن.
لا يمكن التعويل على الخطاب الجامي أو السروري، ولا الليبرالي والعلماني، في أبعادها التاريخية والسجالية، وإنما لفضاءٍ مختلف وخطابٍ متطوّر يجعل من الهويّة خلّاقة ومتطوّرة ومتفاعلة مع محيطها غير هيّابة من الآخر، ولا انعزالية ولا انكفائية. لا بد من أن يُستبدل بـ«الخطاب التاريخي الصحوي» بكل حمولته وأغلاله آخر يرسخ الهوية البسيطة الفاعلة.. الخطاب الديني المنجز والحيوي الذي يجعل هدفه التكفير والإلغاء والتبديع والتفسيق، ولا الخطاب المعتمد على الأحقاد والنكايات والوشايات، وإنما لفضاءٍ ديني سمح، يمكّن الناس من الانطلاق نحو دنياهم من دون الاضطرار للدخول في أزماتٍ مع الآخرين. إن الأخطاء التي وقعت بها السرورية سرت حذو قذّتها الجامية، والتعويل على أي من الخطابين لضرب الآخر أو لإصلاحه يعني الاستمرار في ذات السياق التاريخي المزعج، الذي عانى منه الناس طوال 40 عاماً.
كما بدأنا مراحل تنموية جديدة، لا بد من تدشين فضاء آخر للخطاب الديني، بدلاً من الركون إلى ذات المرحلة بكل نقائضها.