بقلم : فهد سليمان الشقيران
تعبّر «الثرثرة حول السعادة»، وهي موضة جمع من المثقفين الحالية، عن استغلال وتسويق؛ أما الأول فيستغل الفجوة بين الأمل والواقع لتعبئته بخطابات التعزية المريحة، فراحوا يكتبون قوانين وخطواتٍ وتمرينات تحسم مسألة السعادة، لذلك تروَّج مثل هذه الكتابات بوصفها الأكثر مبيعاً لأنها تجمِّل الإحباطات وتجعلها مألوفة وليظن ممتثل تلك الوصايا الرثة أنه بلغ مستوى السعادة ووصل إلى سرها. بينما السعادة مستحيلة التقنين والتخطيط والتمرين، إنها تتويج لمجموع حقائقك وأدبياتك ومعرفتك وأخلاقك، إنها ليست الكنز المفقود والمبحوث عنه بقدر ما هي مستوى معين يصل كل إنسانٍ إليه بمفردة وبمحض تجربته.
وأما الثاني ويتعلق بمستوى التسويق فمردّه إلى معاناة المثقفين من الفراغ القاتل بدليل أن بعضهم أضاع وقته في دراسة موضوعات هامشية ويقوم عن جهل بانتقاد لاعبة من وطنه لأنها تواجه لاعبة أخرى من دولة لا يطيقها ولديه مشكلة آيديولوجية معها. ومَن لم يتجه إلى ذلك الخطاب الآيديولوجي المستهلك اتجه لإقامة الدورات حول السعادة ليبيع وليسوّق المقولات التجارية المطروحة بكتب تطوير الذات وخرافات الانطلاقات، وسبب هذا التصدع بين المثقفين أن الرؤية السعودية الطموحة تجاوزت جميع أحلام المثقفين وأوهامهم، لذلك توجّه بعضهم ليكون من عرض المعلقين المتقافزين في «تويتر» ووسائط السوشيال ميديا. هنا نتناول جموع المثقفين الذين اتجهوا نحو التسويق، أما الذين طمرتهم موجة الآيديولوجيا والخطابات القديمة فلا قيمة لما يطرحونه أصلاً.
من الضروري ملاحظة المقولات التي يتم اقتباسها من إنتاج الفلاسفة بوصفها المنقذة من الإحباطات لأن الفلسفة كما أنها لا ترسم هوية فهي لا تؤمِّن حلولاً للسعادة، أقصى ما تمكنه للإنسان ما يعدّه الحكيم سينيكا: «رسم مقاربة معتدلة للكارثة، فالفلسفة منهج يساعد على تجاوز التباينات بين أحلامهم والواقع». يعلّق آلان دو بوتون على ذلك بقوله: «أدرك سينيكا سبب قدرته على الصمود حين عدّ نفسه مديناً للفلسفة، وحسب الرؤية السينيكية فإن ما يدفعنا إلى الغضب أفكارٌ تفاؤلية على نحوٍ خطير بشأن ماهية العالم والناس والآخرين».
ينتظر البعض من الفلسفة - حين يقتبسون باغتباط مقولات فلسفية - أن تكتب لهم الحلول والنتائج والنهايات، مع أن الفلسفة قوتها في النظرية لا في المقولة، فالنظرية ترتبط بالمعرفة والمقولة أقرب إلى التجربة. لذلك حتى قانون سينيكا الذي سنعرّج عليه هنا أقرب إلى الحكمة منه إلى الفلسفة لأنه نتاج تجربته المريرة، لكن مراقبته للواقع الذي يعيشه جعل من مقولاته الصادمة مألوفة في دراسات الإحباط.
إن أهم ما في كتابات سينيكا طرحه لنقائض خطاب السعادة المألوف؛ إذ يرى الأساس أن توطّن نفسك على نقيض ما تشاهده في كل من حولك لأن هذا يقلل من فرص وجود تناقضات بين المتوقع والواقع.
نقرأه حين ينقل عنه بوتون: «بدا أن ثمة مستوى غير اعتيادي من الغضب بين المترفين؛ الثراء يعزز الأمزجة السيئة، قال سينيكا بعد مراقبة أصدقائه الأثرياء المتشدقين حوله لكون الحياة لم تظهر كما تمنوا»، هنا سينيكا ليس أحمق لدرجة ذم المال وإنما نفى عنه ضمان تأمين السعادة، فقد يوفّرها وقد لا يوفّرها، إذ يوجد ثري تعيس وآخر سعيد.
والمثقف يستغل البحث عن المكانة في الإنسان بغية تسويق دوراته وكتاباته، وإلا فالمكانة تؤخذ ولا تُمنح، لذلك فإن أرباب الدورات وتطوير الذات يبيعون الوهم على الناس باسم السعادة وتحت شعار التدريب على السعي نحو المكانة وهي الحلم البشري العام، والبحث عن المكانة دافعه الخوف من الازدراء، وهنا نقع أمام فخ خطير والمتمثل في الخوف من نقد الآخرين، ويصفه سينيكا بـ«الألم الحاد النابع من انطباع بأن الآخرين يهزأون بك سراً»، ثم ماذا حين يهاجمك البعض أو يتحدث عنك بسوء؟! هنا يتدخل رواد ترويج السعادة لطمأنة المساكين الباحثين عن الاكتمال في التقدير والبحث عن القول الحسن في كل الأوقات! ليصل الأمر بهم إلى مرحلة بشعة تُدعى «الذل الروحي»، ولكن ما ملامح «ذل الروح» حسب الحكيم سينيكا؟!
الخلاصة للفكرة حسب بوتون: «إن لدى سينيكا تفسيراً لأخطاء الحكم... إذ خلف استعدادهم لتوقع الإهانة، يكمن خوف من السخرية المستحقة، عندما نشك أننا أهداف ملائمة لتلقي الأذى، لن يأخذ الأمر منّا الكثير كي نجزم بأن شخصاً أو شيئاً ما ينوي أذيتنا»، ثم يضرب سينيكا مثلاً بقوله: «لم يقابلني فلان اليوم مع أنه قابل آخرين؛ نَفَرَ بعجرفة أو سخر بصراحة من كلامي، لم يعرض عليّ كرسياً محترماً بل وضعني عند طرف الطاولة»، ثم يشرح بوتون: «قد تكون ثمة أسباب بريئة. لم يقابلني اليوم لأنه كان يفضّل رؤيتي الأسبوع القادم. بدا كأنه يسخر منّي ولكن كان ذاك مجرد تقلص في الوجه، ليست هذه هي التفسيرات الأولى التي تَرِد إلى أذهاننا عندما نكون ذليلي الروح، يقول سينيكا: لا يقوم الحكيم بوضع تفسير خاطئ لكل شيء يصادفه».
إن جلبة السعادة وضجيج خطابها أساسه زحام الأمنيات والتوقعات وسذاجة حُسن النيات؛ إن الأساس في الحياة هي الحرب، فالإنسان انطلق بوجوده مثل الرصاصة وعليه مواجهة التحديات وقبول خيار المعارك. ثم إن الإحباطات التي يعانيها أولئك مردّها إلى ذل الروح لدرجة رسم توقعات بأنه لن يقابل في حياته إلا فيالق من الناسكين، لا بد من توطين الإنسان لنفسه على أنه سيقابل المعاتيه والأشرار والإنسان القردي (حسب وصف نيتشه إن الإنسان أعرق من القرود في قرديته).
ليس شرطاً لوجودك أن تكون سعيداً، بل يكفي القليل من الرضا والنشاط واستثمار الهوايات والحرص على الإبداع لتكون في حالة جيدة، فلا تبدد وقتك وثروتك في اللهاث وراء الأوهام، يؤكد ذلك سيغموند فرويد في قوله: «إن عزم الإنسان كي يكون سعيداً ليس وارداً في تصميم الخلق، فما نسميه سعادة بالمعنى الضيق للكلمة، ينجم عن الإشباع الخاضع بالأحرى لحاجات بلغت أوج حدتها، وحسب طبيعة السعادة؛ فإنها ليست ممكنة إلا كظاهرة عرضية».