بقلم : فهد سليمان الشقيران
بإعلان الرئيس ترمب عن اتفاق السلام البحريني الإسرائيلي تدخل المنطقة فعلياً لفضاء آخر يتجاوز سكنى التاريخ وعبادة الشعارات. واقعية السلام تُفكِّك عُقد الصراع وتخفِّف من أغلال الماضي. يكشف التقبل الاجتماعي للاتفاقيات مع إسرائيل عن وعي استثنائي متطور لدى شعوب الخليج نظير تعلمها الفريد وتشبعها بالنمط العصري والحداثي المتجاوز لأفكار النضال الخربة، وممانعتها لأنماط الآيديولوجيات التي أفسدت الدول الغنية وهدت صروحاً شامخة كانت قبل أن تغرق بتلك الأفكار مضرب المثل في التقدم والازدهار.
والاتفاق البحريني ينضم إلى سابقه الإماراتي بأثره وتأثيره؛ لقد عاشت المنطقة خلال العقد الماضي أعنف حربٍ فكرية وسياسية مع أفكار الرجعية والانحطاط، وبقوة الإدارة وعزم السياسة شكّل المحور المعتدل بقيادة السعودية والإمارات والبحرين ثم مصر بعد دحر «الإخوان» سداً منيعاً أمام سيل جارف من المحتوى المتطرف المغلف بسحر الحرية، وأوهام الديمقراطية، وأحلام التغيير.
اليوم يمكن لدخول إسرائيل ضمن علاقاتٍ خليجية طبيعية أن يضيف زخماً جديداً للمنطقة. من الضروري صناعة محور سياسي جامع تُضاف إليه إسرائيل للعمل على المشتركات، وهي كثيرة، وعلى رأسها مواجهة قوى التطرف ومحور الممانعة. ولا يمكن فصل الحرب التي تقوم بها دول الاعتدال ضد التطرف عن الحروب العديدة ومنها الفكرية التي تقوم بها إسرائيل ضد التطرف. ما يمكن البناء عليه بين دول المنطقة المفيدة أكثرُ مما يُتخيل، والبحرين عانت الأمرّين من إيران وأذرعتها وآن الأوان أن تسهم مع الحلفاء الأوائل والجدد في محور سياسي ضارب لتحجيم إيران وهزيمتها وردها إلى حدودها وإضعافها وإرهاقها بمشكلاتها الداخلية واستنزافها بمواقع تمددها في الخارج.
عبر تاريخها كانت البحرين قوة تنويرية أمدّت المنطقة بتجاربها السباقة في التعليم والطبابة والحديث من الأفكار، وهي بإعلان اتفاق السلام تضع بقية العرب أمام فرصه وإمكاناته. إسرائيل من جانبها أثبتت بما لديها من تقدم تقني وعلمي وأمني وبما تحمله من إرث حداثي خارق، أن التفاهم معها والانخراط بعلاقاتٍ طبيعية أفضل من الجلوس على عتبات التاريخ منتظرين ما لا يأتي وحالمين بما لن يحدث.
إن الهجوم العنيف من قبل تيارات التطرف المقيمة بقطر وتركيا والمدعومة رسمياً منهما، لهو أمر طبيعي، إذ ثمة قوى ومنظمات وحركات تعيش وتتغذى من العداء لإسرائيل، وغذّت معها ملايين من الناس الأغرار، وحين تأتي اتفاقية سلام إمارتية ثم أخرى بحرينية فإن الخسارة ستكون عليهم فادحة، لذا يمكن تفهم كل الضجيج والصراخ والزعيق المبثوث بالبيانات والخطابات ووسائل الإعلام، ماذا يجيد هؤلاء غير ذلك؟!
إن الاتفاق مع إسرائيل يمثل المدخل الجدي الأبرز لمحاربة الإرهاب بشقيه الشيعي والسني، المنبع واحد، الضغط على وتر القضية الفلسطينية، وبقيت طوال قرن من الزمان هذه القضية أساسية في الآيديولوجيات الحزبية الخمينية والإخوانية، كل التعاليم التي تُدرّس للكوادر منذ أول انضمامٍ لهم تبدأ من ضخ خطاب يصعّد من الرغبة في قتال اليهود، وتحرير فلسطين، لكن حين تشتد الأعواد ويشحن الزناد تُوجَّه البنادق إلى الدول والمؤسسات والمواطنين ورجال الأمن والنساء والأطفال، رأينا ذلك جميعاً في تفجيرات «القاعدة» من الحمراء بالرياض إلى الدار البيضاء. القصد باختصار أن كل اتفاقية سلام تُوقَّع مع إسرائيل تكشف عن عوار الأصوليات وتهافت خطاب القضايا والعنتريات.
والسلطة الفلسطينية غائبة عاجزة عن الفهم، تعيش في غياهب التاريخ، تظن أن ما تتوقعه وتعتنقه من أفكار قديمة ستظل ساكنة وجدان الشعوب إلى الأبد، وهذا وهم، وردّة فعلها على كل الآفاق إنما هو دفاع عن الفشل التاريخي السياسي والأخلاقي في إدارة القضية. فالفرص التي فوّتتها لا تُحصى، والعناد والمكابرة أوصلاها إلى هذا الطريق المسدود، كان على قادة السلطة منذ أوائل شبابهم أن يسألوا بمنطق وواقعية وعقلانية: ماذا أستطيع أن أحصل عليه عبر المفاوضات؟! وما احتمالات خسارتي لبعض ما أطالب به؟! والسياسة هي حصيلة الصراع البشري، والتدافع بين القوى هو الذي فرز الأرضين وأملاكها، ومَن عاش بالصراخ لم يجنِ غير صدى نفسه، ومَن امتلك زمام القوة وروح المبادرة ووثب المفاوضة فاز وظفر، ومَن بقي عاجزاً صارخاً فشل وقذفته حركة التاريخ، وهذا هو دفع الناس بعضهم ببعض، ومن لم يذُد عن حوضه بسلاحه آل إلى نتيجة تردده وحصد إخفاقه.
اتفاق البحرين يعبّر عن سياسة شجاعة، هدفها المستقبل، تنطلق بهذا الاتفاق نحو آفاق رحبة، نحو تأسيس محور جديد في المنطقة هدفه التنوير والعصرنة بوجه الأصولية وثقافة الكراهية والإرهاب.