بقلم : فهد سليمان الشقيران
مع كل أزمة عابرة، تطفو على السطح شعارات الهتيفة، ويملأ الأفق صراخ الجهلة. دائماً نعثر على عنوانين للتغطية والمعالجة والتعليق؛ عنوان شعبوي انتهازي، يستخدم العواطف الدينية الجياشة والمشاعر المستفيضة لغرض تحقيق أهداف سياسية، وعنوان مختلف رصين يفضل تغليب العمل السياسي في تصويب المسارات والأخطاء، وتجنيب الشعوب مآسي الدخول في دوامات الانضواء الآيديولوجي الفج الذي يلهي الناس عن دنياهم وعن واقعهم وعن حقيقة كونهم مسلمين خُلّصاً، ولكن من دون الغرق في شعارات الإسلام السياسي المدمرة.
من أبرز ملامح الاعتدال التفريق بين القضية وبين الشعار، ولذلك حذر قبل أيام الشيخ محمد بن زايد من «التسييس» حين صرح بعد مكالمة مع الرئيس الفرنسي قائلاً: «الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يمثل قدسية عظيمة لدى المسلمين، وربط هذا الموضوع بالعنف وتسييسه أمر مرفوض».
مشكلة ظهور عنوان التسييس مع كل أزمة من الضروري تجاوزها عبر أنماط تعاون غير تقليدية بدأت بواكيرها تتشكل في المنطقة ومن ذلك مبادرات السلام. عبر التاريخ فإن فتح الأبواب المغلقة بين الدول يغير الموازين، ويحول مسار الرياح. بدء هذا التشكيل للجم تحالف دول الإسلام السياسي وردعه أمر أساسي، وهذا لن يتم من دون صلاتٍ مع دول يمكنها المشاركة في مسارنا نحو الاعتدال.
ذلك يشبه انفتاح أميركا على دول كانت منبوذة مثل الصين، مع فوارق في المثال، يروي هنري كسينجر في مذكراته، بمجلد «سنوات التجديد» أن «إدارة نيكسون سعت بانتظام إلى تغيير بيئة الحرب الباردة، ولم يكن هذا بسبب عدم فهمنا للآيديولوجيا السوفياتية، بل إننا استنتجنا أن الهدف الاستراتيجي السوفياتي كان في انحدار. ففي غضون جيلين من التاريخ الشيوعي لم يفز أي حزب شيوعي في انتخابات حرة. الحلفاء الوحيدون للاتحاد السوفياتي كانوا في أوروبا الشرقية، وهم منضبطون بسبب الاحتلال العسكري السوفياتي. وما أن يكتمل انفتاحنا على الصين حتى يواجه الاتحاد السوفياتي تحالف جميع الدول الصناعية في العالم مع الدولة الأكثر سكاناً. آجلاً أم عاجلاً، هذه المسألة ستكون في صالح الديمقراطيات، مفترضين أن هذه الدول سوف تحتوي المغامرات السوفياتية عن طريق الردع وإعطاء السوفيات فرصة لتقليص المجابهة عن طريق فرض التعاون. لم يرث أي رئيس جديد منذ هاري ترومان مثل هذه السلسلة». ومن ثم يوضح كيف انتقل نيكسون بسياسة أميركا من الهيمنة إلى القيادة.
لا يمكن للمنطقة أن تبقى مرهونة تحت سياط شعاراتٍ وقضايا شكلت لأغراض سياسية محددة، رأينا المحور المناهض للسلام في المنطقة كيف بدا مهزوزاً متآكلاً وهشاً. الأجيال العربية اليوم لم تعد شغوفة بما تحمله القضايا من إرث ثقيل لا يطاق، مهما كان أصل القضية محقاً. لذلك فإن الانفتاح على إسرائيل في عملية السلام يمكنه أن يعزز من التخاطب العقلاني بين الإنسان والآخر، ويضع أغلال التاريخ والماضي على طاولة النقاش. قد يكون مثال أميركا والصين ضرورياً باعتباره كما يصفه كسينجر أخلاقياً متسقاً مع معايير ومشاعر الشعب الأميركي الراغب أن تلتزم سياسته بمعايير الخير والشر من الناحية الفلسفية، كذلك الأمر في الخليج، السلام فلسفي بقدر ما هو سياسي، ومنسجم مع الخيرية والأسس الأخلاقية في عقده وتنفيذه وتسبيبه أيضاً.
أعود لتتمة المثال الصيني في الحرب الباردة كما يرويها كسينجر: «إذا كان هاري ترومان مهندس الأوضاع الجوهرية التي جعلتنا نكسب الحرب الباردة، وقدم رونالد ريغان الدافع لإنهاء هذه اللعبة. فإن ريتشارد نيكسون كان الرجل المحوري في المرحلة ما بين الفترتين. ففي ظل فترة رئاسته وضعت الخطوط العريضة للسياسة الأميركية في العقدين الأخيرين من الحرب الباردة إلى جانب التخلص من مأساة فيتنام. ففي نهاية فترة رئاسة نيكسون سحبت الولايات المتحدة قواتها من فيتنام بشروط مُشرّفة. وأُزيل تهديد الكتلة السوفياتية الذي ظل يخيم على برلين لمدة 25 عاماً باتفاقية مع السوفيات تضمن الوصول إلى تلك المدينة المحاصرة. وبدأت عملية تخفيض الأسلحة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفياتي. وأُشركت الصين في دبلوماسية الدول الكبرى، ولا سيما من الجانب الأميركي. تلك الخطوة حولت الموقف الجيوسياسي لموسكو بين يوم وليلة، لأنها عززت تحالفاً قوياً لجميع قوى العالم العظمى ضده. وأمكن التغلب على حرب الشرق الأوسط وتآكل الدور السوفياتي السياسي والاستراتيجي في تلك المنطقة تدريجياً. وأصبحت عملية السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب تحت الرعاية الأميركية قيد التنفيذ. ولعل الإسهام الأكبر لفترة ولاية نيكسون أن معظم العلاقات والاستراتيجيات انطلقت أثناء ولايته وظلت بمثابة سياسة ثابتة لجميع من خلفه من رؤساء حتى كتابة هذه السطور».
يمكن للفضاء السياسي القادم في المنطقة، والمتمم للتحالفات الحيوية بين دول الاعتدال، أن يخفف من عناوين «التسييس» التي حذر منها الشيخ محمد بن زايد، وذلك لتحقيق رغبة الشعوب في أن تعيش في ظل مفاهيم دينية معتدلة، وبظل سياسات وأحلاف أسست على المصلحة والواقعية والمنفعة، هذه قطعاً ستخلق فضاءات ثقافية ومبادرات جديدة مفيدة.
زمن الآيديولوجيات والشعارات والزعيق آن أوان انتهائه، ليتم حصر ذلك كله في أزقة الدويلات، وقنوات الهتيفة، ومهرجانات الخطابة المكتظة بالحمقى والمعاتيه.