بقلم : فهد سليمان الشقيران
لا يكاد يخلو أي خطابٍ لزعيم لبناني من اسم باسيل ضده ومعه، فهو حالة استثنائية وغير اعتيادية. إنه التعبير الأمين لحقيقة بلده الحالية، فهو من صناع لبنان المحتار بين الهويات، ومن راسمي خريطة هويته السياسية المضطربة منذ اتفاق مار مخايل، وبلغ الذروة بعد اتفاق الدوحة المشؤوم.
لا شيء يعبر عن لبنان أكثر من خطاب تسمعه لجبران باسيل لمن يعرف لبنان قبل باسيل وبعده يدرك أن ما يقوله وما يعبر عنه وما يبوح به هو شكل الأزمة اللبنانية وشرحها، لأنه من راسميها ومن الفاعلين بها، والمنفعلين معها. حتى هو لم ينفِ بظهوره التلفزيوني الأخير على قناة «الحدث» عن نفسه إلا تهمة الفساد، لكن المساهمة القوية له في تكوين خطابات تتعارض مع لبنان ووجهه العربي، والممارسات الدبلوماسية التي قام بها وأزّمت علاقة لبنان بالدول العربية الكبرى، وعلى رأسها السعودية، أمر لم ينكره وليس لديه القدرة على ذلك.
في لبنان حالة مرفوضة عريضة يبدو باسيل من وجوهها لا يتعلق الأمر بالفساد هذا موضوع قانوني على الجهات القضائية التحقيق به كما يتمنى اللبنانيون أنفسهم، ما يهمنا الموضعة التي أخذ بها باسيل لبنان وجعله بها. لبنان المساهم في تأسيس الجمعيات الأممية والجامعة العربية، والمستعد للانضواء مع المواقف العربية وقضايا العرب العادلة منذ الاستقلال (لبنان أدان غزو صدام للكويت 1990)، أخذه قائد الوجه اللبناني الحالي باسيل إلى محور آخر له شكل مخالف لما يتمناه اللبنانيون والعرب، فمثلاً عدم إدانة إطلاق الصواريخ الباليستية ضد السعودية، وعدم إدانة الاعتداء على المصافي في شركة أرامكو، بالمقابل إدانة مقتل قاسم سليماني. إنَّ الانضواء المطلق مع المشروع الإيراني بشكل لا يختلف فيه التيار كثيراً عن «حزب الله»، يعارض ما يعتبره نقاد التيار (حتى من داخله) القيم التي بنى عليها ميشال عون حزبه، ويعارض ما طرحه عون في كتابه النظري «رؤيتي للبنان» عن مشروعه السياسي، ويعارض خطاب العلمنة الذي دوخ فيه مؤسس التيار اللبنانيين طوال مدة منفاه في الخارج.
إن نهب قيم العروبة والحرية التي تأسس عليها لبنان، يفوق جرم نهب الأموال، والتذكير بالخذلان الدبلوماسي بوجه القضايا العربية لا يقصد منه استدرار المواقف، وإنما الشفقة على مؤسسات سياسية لبنانية باتت بخطاباتها تتطابق مع دولة مارقة تقتل النساء والأطفال مثل إيران.
لا يمكن لأي باحث اليوم في الحركات الإسلامية في أي مركز للدراسات، إلا أن يعتبر التيار الوطني الحر المسيحي جزءاً فاعلاً في مسيرة الإسلام السياسي في العقد الأخير، هنا لأول مرة يفرض حزب مسيحي واقعه على الباحثين، ويجعل الإشاحة بالوجه عنه وعن أثره في الحالة الإسلاموية أمراً يتنافى مع شروط المعرفة والبحث الموضوعي، وآية ذلك أن الحلف بينه وبين «حزب الله» لم يعد حلفاً سياسياً لأغراض انتخابية، ولا محكوماً بفترة مؤقتة ضمن ما تفرضه لعبة الديمقراطية، بل تجاوز ذلك ليرتكب خطأين كبيرين في نظري، أولهما: تدمير الأثر المسيحي المضيء والفاعل في الحضارة العربية، وفي تاريخ فضاء البحر المتوسط منذ قرون عبر تذويب هويته ليكون منصاعاً لقرار الولي الفقيه الإيراني الذي لا يشترك معه اللبناني بأي من القيم التي يحملها، ولا يتواءم معه بأي من الأفكار والأسس التي ينجذب نحوها وعلى رأسها مفهوم العلمنة، هل يستطيع باسيل اليوم الدفاع عن العلمانية كنظام سياسي مستقبلي للبنان؟ العلمانية التي نادى بها شارل مالك وفؤاد بطرس وغسان تويني وسواهم من عمالقة الدبلوماسية والفكر في تاريخ لبنان الحديث؟!
وثاني الأخطاء: محاولة التغطية على العنف الممارس من قبل «حزب الله» في الداخل والخارج، وهذا العنف ليس عرقياً أو طائفياً، وليس حالة ذئبية كما يصفها توماس هوبز في حالة الطبيعة «حرب الجميع ضد الجميع»، وإنما أقرب لـ«العنف المقدس» كما يصفه رينيه جيرار بكتاب يحمل ذات العنوان، هنا العنف يقوم على التصفيات من أجل العقيدة ليس ضد جماعة فحسب، بل حتى ضد الفرد كما يفعل «حزب الله»، وإيران التي تعدم يومياً الرياضيين والفنانين والموهوبات. إيران أعدمت أحد الملاكمين، وتقوم بتصفية النساء وتجلدهن بالشوارع والطرقات، وتفرض الحجاب بالسوط، وتمنع المرأة من حضور المباريات، وبالمقابل تظهر إحدى الكوادر من التيار الوطني الحر وتقول إنها تفضل إيران بسبب حياكة السجاد (!) إنه لمن المخيف أن تتحول القيم لدرجة الدفاع عن حزب إرهابي يجتاح مدرسة طلابية بالسلاح لمجرد استماع الطلبة لفيروز، وعن نظام ثيوقراطي مارق يفتك بالناس. هل هذه قيم يستحق أن يدافع عنها تيار سياسي مسيحي يفترض أنه علماني؟! هل هذا نموذج مشرف بالنسبة للتيار وكوادره؟!
إن ظهور جبران باسيل دائماً يأخذ شكل أزمة لبنان، على الدوام. الأزمة أعمق مما ادعى أنها محاولة لاغتياله سياسياً. الفكرة أن من يدمر طموح باسيل خطاب باسيل نفسه. سيغضب عليه «حزب الله» ربما حينما باح لأول مرة عن مقارنة «حزب الله» بـ«داعش»، بالطبع وربما «حزب الله» أخطر لما يملكه من نفوذ سياسي ليس لدى «داعش». قال باسيل إنه إن كان يدعم «حزب الله»، فثمة من يدعم «داعش». لا بأس هنا رمية من غير رامٍ... نعم «حزب الله» من المنظمات الإرهابية بمعظم الدول الغربية وبعضها على الطريق. من يدري ربما تصنفه فرنسا بذلك قريباً بحسب ما يفهم من مباحثات الوزيرين الأميركي والفرنسي قبل أيام. العالم يغلي ضد الإسلام السياسي، والسعيد من وُعظ بغيره.