بقلم : فهد سليمان الشقيران
ما يحدث في فرنسا مختبر حقيقي لتجريب مؤسسي قانوني وسياسي وفكري لمواجهة التطرف، الذي يمثله تيار الإسلام السياسي. اكتشاف متأخر، وإجراءات لن تكون سهلة بعد أن تضخمت المشكلة، واستشرت حالة الغليان الآيديولوجي داخل مجاميع الإسلام السياسي وتنظيماته النشطة والمؤثرة على المسلمين.
وراء كل ذلك الغبار المثار تشتعل سجالات فكرية عنيفة بين مختلف التيارات وعلى شتى الجبهات، بين اليمين واليسار، بين العلمنة المجتثة للشعارات الدينية في المجال العام، والأخرى المخصصة لحضوره ضمن قانون 1905.
تصرح الحكومة الفرنسية كل يوم بأن الإجراءات المتخذة من إغلاق للجمعيات وضبطٍ للمرافق إنما هدفها حصار خطاب التطرف الذي تسبب في كوارث دموية، وليست موجهة ضد المسلمين، بل إن المسلمين جزء من فرنسا ولهم حضورهم الاجتماعي والسياسي. وهذا لم يكف البعض، إذ لا يزال يتوجس خيفة من أي عملٍ يستهدف مسلماً أو مجمعاً وتنظيماً للإسلام السياسي الذي تمثله بشكل أساسي جماعة الإخوان، ما اكتفى البعض بهذه التطمينات فراح يساجل ويحاجج بأن هذه إجراءات ضد دين الإسلام.
سيقت تهم ضد ماكرون بأن لديه موقفاً ضد الإسلام، وهذا مناقض لما طرحه في كتاباته وحواراته فيما اطلعت، ليست لديه مواقف راديكالية ضد هذا الدين أو ذاك، وإنما لديه ثوابت أساسية منها الحفاظ على قيم الجمهورية، والرهان على العلمانية لضبط حضور الدين في المجال العام، أمور يقنع بها أي فرنسي. أستاذ ماكرون الفيلسوف بول ريكور أعطاه نصيحتين كما ينقل الدكتور السيد ولد أباه وهما: «عدم الانقياد لبساطة العواطف والأقوال المألوفة، وعدم الانغلاق في النظريات المجردة التي لا تختبرها حقائق الحياة المعيشة».
يقول ماكرون إنه أخذ من الفلسفة ما يفيده في العمل والسياسة، ومن مفاهيمها ما يمنحه الحيوية في إدارة الأزمات. وريكور يصفه فرنسوا دوس بقوله: «لا يمكن أن نتتلمذ على يدي ريكور من دون أن نحب المصليات (أن نكون من المتدينين)». وعليه فإن عداوة الأديان ليست من صميم ولا فكر ماكرون، مع أن موقف ريكور لا يعني التطابق مع ماكرون؛ يطرح جان لوي شليجيل أن خطابات ماكرون الأولية تميل إلى اليمين، على عكس ريكور الذي بقي يسارياً أو على الأقل وفياً لأفكار اليسار حتى رحيله. (للتفصيل انظر مادة: ما الذي تبقّى من بول ريكور لدى إيمانويل ماكرون؟، لنيكولا ديّتنت، مجلة «معنى»).
يبدو أوليفيه روا أبرز نقاد مشروع ماكرون ضد الانفصالية، خلاصة رأيه أن في القانون استهدافاً خاصاً بالمسلمين وكأن الديانات الأخرى ليست لديها نزعات انفصالية، وأن المشروع يعني اجتثاث الدين من المجال العام بشكل كامل، ويعترض على ذلك لأنه مناقض لقانون 1905.
هذا الرأي لقي رواجاً كبيراً لدى بعض المسلمين ومقالته تم تداولها على نطاق واسع. لقد خوّف أوليفيه روا الفرنسيين بأنهم أمام جبهة قد تضم ليس فقط جموع المتضامنين مع الإسلام السياسي، بل ستأخذ معهم حتى المسلمين ممن احترفوا الإجرام سواء من تجار المخدرات أو رجال العصابات.
لم يعد النقاش مرتبطاً بموقع الدين في المجال العام باعتباره مجموعة من الطقوس والشعائر، هذا مطروح فلسفياً كما في تعليق تشارلز تايلور على هابرماس حين انتقد العلمانية «المهووسة بالدين»، (انظر قوة الدين في المجال العام - كتاب مشترك شارك فيه هابرماس وتايلور) فيه يقارن بين العلمانية الأميركية والفرنسية والألمانية، وإنما القصد علاقة العلمانية بطفرات آيديولوجية تستخدم الشريعة مثل الإسلام السياسي.
الفكرة ليست علاقة الدين بالعلمانية، وإنما موقف العلمانية من الإسلام السياسي، هذه مواجهة استثنائية نراقبها الآن.
ثمة آيديولوجيا عنيفة تشبه الفاشية والنازية تستخدم الدين وأدلته وشعاراته لأغراض سياسية واستئصالية. نقطة ضعف نقد أوليفيه روا ضد مشروع قانون الرئيس الفرنسي أنه لم يناقش أثر القانون في مواجهة «آيديولوجيا التطرف»، وإنما حصر ملاحظاته بعلاقة القانون بالإسلام، وفي هذا حيدة عن صلب الموضوع.
الأمر الآخر، أن مشكلة الهوية والاندماج أو الانخراط في فرنسا تعاني منها الجاليات الإسلامية بسبب تيارات التطرف. إن خطاب التطرف الإرهابي ومفاهيم الإسلام السياسي تحول بين المسلم وبين الانخراط في مجتمعه الغربي. لقد عززت مفاهيم الانعزال، وسلوكيات الانفصال من الأعطال الاجتماعية، وجعلت المسلم يشعر بالإهانة على الدوام لأن الآخرين لا يقلدونه، ولا يتبعونه، ولا ينصتون إلى معتقده.
والانخراط لا بد أن يكون واعياً، لا يكفي الجلوس مع الناس أو الحديث معهم لتحقق ذلك. ويمكن الاستئناس بما كتبه مصطفى تمسك حول الهوية: «إن التجسد في لحم العالم، يتبعه منطقياً وعي بالانتماء إليه وبالضرورة الانخراط فيه. يفيد الانخراط أيضاً الالتزام بمعنى تحمل مسؤولية وجود عار من كل ماهية قبلية ومعطاة لا خيار لنا فيها... تتزاحم داخل مقولة الانخراط منظومة الالتزام والمسؤولية وتعيين معنى الحياة، لا فقط في الأطر السياقية بل أيضاً في أفق الكونية، ويبدو أن تايلور قد وجد في مقولة الانخراط الفينومولوجية الحل الأمثل للتوفيق بين الأنا وفكرة الخير الموضوعي، ومن ثم تأسيس هوية أخلاقية يلتئم فيها المنظور الموضوعي (الهيغلي) والذاتي (الكانطي) للأخلاق، بحيث تتوسط فينومولوجيا الانخراط هذا التباعد وتشرّع تقاربه». (انظر: أصول الهوية الحديثة وعللها، مقاربة تشارلز تايلور نموذجاً).
ببساطة فإنه يشترط للانخراط القصديّة، مفعّلاً عدة الفينومولوجيين النظرية في مقاربته لموضوع الهوية.
ما تعاني منه فرنسا ترزح تحته بقية الدول الأوروبية، الفرق أن ماكرون تكونت لديه صورة أوضح عن الإسلام السياسي، وأنه على النقيض من القيم الفرنسية، وعليه فإن المشروع الذي يتبناه هدفه مواجهة الإسلام السياسي، منبع التطرف، ولا يعني مطلقاً مواجهة الإسلام، فهذه مهمة مستحيلة قانوناً وسياسة وعقلاً.