بقلم : فهد سليمان الشقيران
لا يمكن أخذ ظاهرة الإسلام السياسي بمعزلٍ عن التاريخ؛ فكرة إقامة الدولة الإسلامية ليست وليدة القرن العشرين وإنما لها جذورها، وعليه فإن مقولة «نهاية الإسلام السياسي» تقع في خطأين اثنين؛ أولهما، أن فكرة الدولة الإسلامية لدى قطاع عريض من الشبيبة المتحمسة من المسلمين اليوم لا تزال فاعلة وبوضوح في مجاميع الإنتاج الصحوي الأصولي، أو في الميادين عبر البرامج والمشاريع في الدول التي لم تحضر بها الجماعات، ولننظر إليها بشكل واضح وفاقع في الدول الأوروبية، حتى مع الإجراءات الفرنسية القوية والمهمة ضد بعض الأذرع الأصولية غير أنها لا تزال تعمل. وثاني الأخطاء، أن الإسلام السياسي ممثَّل بدول وبأحزاب موجودة في بعض الحكومات العربية مثل «حزب الله» في لبنان، و«النهضة» في تونس، وحزب إردوغان في تركيا، ولها زخمها في سوريا والعراق وليبيا، ولا تزال تقوم بأعمال عنف في مالي وفي الساحل الأفريقي، والمثال الأفظع أن الحركات الأصولية الإرهابية المارقة تقوم بأعمال عدوانية ضد السعودية كما يفعل الحوثي، فكيف يمكن لمقولة نهاية الإسلام السياسي أن تكتسب ولو قليلاً من التماسك في ظل كل هذا الحضور؟!
ويبدو أن هذا الزعم أخذ مداه لدى بعض الباحثين الغربيين مثل جيل كيبل، وأعرفه شخصياً بأنه متريث في حكمه على الظواهر والتحولات، لكنه في طرحه الأخير جنح نحو إغراء هذه المقولة؛ مقولة التراجع أو النهايات!
الأستاذ هاشم صالح لخّص لنا موقف جيل كيبل من مقولة نهاية الإسلام السياسي بعرض مفصل في هذه الجريدة لكتاب «النبي والجائحة» (دار غاليمار 2020)، وكيبل من مؤرخي الجماعات الأصولية وله تحليلاته مثل أي كاتب تتراوحها القوة والضعف، لذلك أختلف مع مقارنة الأستاذ هاشم صالح له بفولتير، أو حتى بمكسيم رودنسون، ولهذا حديث آخر.
يرى كيبل أن «الصراع السني - الشيعي فقد زخمه وتراجع إلى المواقع الخلفية، قياساً إلى صراع من نوع آخر: ذلك الجاري بين أتباع الإسلام السياسي من جهة وخصوم الإسلام السياسي من جهة أخرى»، هاشم رد عليه بأن الإرث التاريخي للصراع لا يمكن محوه، وهذا صحيح، ولكن الأهم أن الصراع المذهبي السني والشيعي في حال تصاعد كبير وذلك لسببين؛ أولهما أن الأحزاب المتطرفة من الجهتين تغذّي الصراع عبر مفاهيم سياسية كما يفعل «حزب الله» في لبنان، و«الحشد الشعبي» في العراق، فبقاء هذا الصراع يغذَّى اليوم ليس بمفاهيم دينية وتاريخية فحسب على النحو الذي ساد في التاريخ، ولكنه اليوم مدفوع بمحورٍ كامل يدعى محور الممانعة، له حضوره الطائفي الكثيف في أنحاء العالم الإسلامي؛ في إندونيسيا والقارة الهندية وإلى الشرق الأوسط. الآخر أن من يغذّي الطائفية السنية والشيعية معاً هو النظام الإيراني الذي تنوي الولايات المتحدة التفاوض معه، وربما تخفيف العقوبات مما يساعده في توسيع الدعم المالي للعمل الطائفي عبر الجمعيات الخيرية، أو الأحزاب الأصولية، لذلك فإنني لا أنفي فقط تراجع المد الطائفي، بل أؤكد ازدياده وتصاعده النوعي.
ومما ينقله هاشم صالح عن جيل كيبل: «لا يعتقدن أحد أن الإسلام السياسي يعيش الآن أجمل لحظاته، فالواقع أنه فقد شعبيته إلى حدٍّ كبير من بغداد إلى تونس. قبل عشر سنوات فقط، كان مترعرعاً مسيطراً على ما يُدعى (الربيع العربي). ولكن الثورات التي اندلعت مؤخراً في العراق ولبنان والجزائر والسودان لم تندلع باسمه أبداً قط، ولم تكن له فيها مشاركات تُذكر، على عكس ما حصل سابقاً. وهذا شيء مفرح بالنسبة لقضية التنوير العربي، وهو دليل محسوس على أنه يمكن تجاوز جماعة (الإخوان المسلمين)، وبقية جماعات الإسلام السياسي».
لا يمكن معرفة براهين وحجج كيبل على هذا النفي الجريء، الإسلام السياسي حورب في السعودية ومصر والإمارات والبحرين، لكنه متغلغل في مجالس نيابية بالخليج، وله حضوره في مراكز دراسات ومحطات فضائية يشاهدها مئات الملايين، ولهم سطوتهم في مجلس النواب بتونس، وعدم حضورهم العملي الكثيف في بعض الدول على السطح بنفس المستوى الذي كانوا عليه قبل عقدٍ من الآن لا يعني نهايتهم.
في حوارٍ مع القيادي السابق بجماعة «الجهاد» نبيل نعيم، وهو مصري شارك في اغتيال السادات، وصديق أيمن الظواهري، يقول بوضوح: «الإخوان المسلمون ما زالوا موجودين»، جيل كيبل يعد اختفاء بعض ملامحهم عن المجال العام يعني أن الظاهرة انتهت، إنهم يعملون باستراتيجية العمل السري الكامن، أو ما يسمونه العمل بأُسس «العهد المكي»، أي دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء.
حتى في الدول التي تحارب «الإخوان» وتجرّم جماعتهم وقامت بإجراءات عديدة تجاه التيار الأصولي، عليها الانتباه من أي ارتدادات قد تحدث بسبب فرط التفاؤل بذريعة انتهاء الظاهرة أو زوالها.
المسار الذي أخذه جيل كيبل حول مقولة نهاية الإسلام السياسي معتنَق من عددٍ من الباحثين المتفائلين. الظاهرة الأصولية ببعديها التاريخي والمعاصر لها قدرتها على البقاء بسبب وجود ظروف مهيأة منها عدم القضاء على المفاهيم والمنابع المفرِّخة للأصولية. وعن الطائفية، فإن أشرس المعارك الآن تقوم بين السنة والشيعة وتحت إشرافٍ من الأحزاب الأصولية.
ما يطرحه جيل كيبل منقوض بالواقع الذي نعيشه اليوم، لا تزال الحركة الأصولية تتمدد، هزيمتها في مصر والسعودية، وهما البلدان الأكثر تأثيراً على العالم الإسلامي، لا تعني نهاية الظاهرة من جذرها، بل علينا التريث وأخذ الحيطة، والاستمرار في تجفيف المنابع، فهذه الجماعات خبرناها وعرفناها عبر السنين، لديها القدرة على التلون، والانسحاب الجزئي، والعمل السري، باختصار علينا الحذر من التقليل انطلاقاً من تفاؤل غير مبرر.