بقلم : فهد سليمان الشقيران
تعبّر المرحلة عن حالها، الزلزال الذي يجري بالإقليم جدّ كبير. من الواضح أنه بلغ أقصى حدّ من الصرامة الحدّية بين الأطراف. وأرى أن الأزمات التي تعجّ بالمنطقة لها سمة التراكم والتأجيل في الحل، وآية ذلك أن الاتفاقيات بين الطوائف لم تدخل في صميم الحل، وإنما هي «هدنة مؤقتة» سرعان ما تنفجر. جرّب الأوروبيون هذه الهدن لقرون ومن ثم اندالت عليهم الحروب الأهلية بين سنةٍ وأخرى.
في الحرب الأهلية الإنجليزية كانت الدماء ترشق على نافذة فيلسوف كبير في القرن السابع عشر، وهو توماس هوبز مؤلف «اللفياثان» الذي يعتبر من متون الفلسفة السياسية الأساسية ومن مراجع العقد الاجتماعي التي تجاوب معها كل الفلاسفة من بعده، وكان من أبرز من تداخل معه في القرن العشرين الفيلسوف الأميركي جون راولز في كتابه الأساسي «العدالة كإنصاف». والقناعة المجتمعيّة لم تصل لعقد توافقي يتوجه بالمجتمع والأحزاب والطوائف نحو مفهوم الدولة، فهو المفهوم الذي ينجز كل شيء، ولا بد من الاقتناع بأن السلاح يجب أن يكون بيد الدولة فحسب، وهذا هو التفويض الذي نظّر له الفيلسوف الألماني ماكس فيبر وخلاصة قوله إن الدولة هي الوحيدة التي من حقها أن تحتكر العنف، فالسلاح جزء من الدولة وليس من حق الفرد، هنا جوهر مفهوم الدولة.
في هذه المرحلة المتصاعدة من الأحداث المكثّفة برز الحديث عن السياسة والأخلاق، وهو موضوع هوس لدى العديد من الفلاسفة والمفكرين بالغرب، وبخاصةٍ منهم ذوو التأسيس اليساري، بمعنى أن السياسة يجب أن تقاد بالأخلاق، ويستندون إلى ذلك بزلازل المنطقة الحالية، والنزاع حول الأولويتين فيهما الكثير من مضيعة الوقت وتشتيت المفاهيم.
أرى أن النقاش الذي يجب طرحه الآن هو مستوى الصراع بين السياسات الواقعية والسياسات الحالمة (مثالية- أيديولوجية)، وأحسب أن السياسة الواقعية خلال القرون الثلاثة الماضية آتت أكلها، واستفاد البشر من أثرها، ومعظم القوانين والاتفاقيات والمعاهدات بنيت على سياساتٍ واقعيةٍ براغماتيةٍ مصلحية بحتة (من دون تهميش للأخلاقية)، وهذه هي السياسة التي سطّرها في مذكراته وينستون تشرشل وقد انتصر بها على هتلر، ونظّر لها بشكلٍ مستفيض هنري كيسينجر في كتابه عن «الصين» وفي كتابه «النظام العالمي». والآن تُطرح السياسات الواقعية في المعركة الانتخابية الأميركية بوصفها هي الأساس بالنسبة لدونالد ترامب.
لو تأملنا في الإقليم والدول المأزومة، لوجدنا أن الإشكال يكمن في معنى الدولة وفهمها. من أبرز مهام الدولة المحافظة على نمط عالٍ من اتساع الطبقة الوسطى، ولهذا نماذج طرحها المفكّر الأميركي والي نصر في كتابه «صعود قوى الثروة». واستدل بنموذجين اثنين هما نموذج اليابان وكوريا الجنوبية. من دون طبقة وسطى فعّالة يكون مفهوم الدولة منقوصاً، بل ربما يحوّل الدولة إلى نمط فاشل، وهذا الذي تعيشه العديد من الدول المأزومة حالياً، والتي لم تستمع لصوت الحكمة المطروح منذ أكثر من أربعين عاماً، طرحت دول الخليج نماذج رصينة؛ بغية رفع هذا الغشاء عن زعماء الخطابة والأيديولوجيات والتصريحات، ولكن ما من مجيب.
الخلاصة، أننا أمام أفكار قديمة نراها تتهاوى ونرى الدول وهي تذوي وتذبل. من دون تأسيس مفاهيم جديّة تعتمد على المواد الأممية، والحوارات المجتمعية، والبحث عن قيادات مدنية لن تجد تلك الدول أي حلٍ لها، الأسلوب هو نصف الفكرة، والمعنى السياسي الحالي لأي دولةٍ مأزومةٍ أن تستفيد من جوارها الهانئ. الكارثة كبيرة ومتصاعدة، وخطاب الأمس متمايز عن خطاب اليوم، الشكوك حول انهيار بعض الدول المأزومة موجودة، ولكن الرهان على القول الحكيم وطرق التفاوض، والبحث عن قوارب النجاة.
نقلا عن "الاتحاد"